زمردة والذئبة الحمراء
زمردة والذئبة الحمراء

د

زمردة والذئبة والحمراء: الخطأ الطبي الذي كلفني خمس سنوات من عمري! الجزء الأول

في عوالم الدراما، قد يبدو منطقيًا أن يمر البطل بمحن متتالية دون أن يلتقط أنفاسه، فتتشابك الأحداث وتتصاعد بينما يواجه مصيره المحتوم؛ وتظل قلوبنا الشغوفة تنبض بالقلق بينما نشاهده يتخطى العقبات الواحدة تلو الأخرى، ولكن ماذا لو تخيلت نفسك بطلًا لإحدى تلك الحبكات الميلودرامية؟ ترى كيف ستواجه الأمر؟ هل يصبح الحظ حليفك وتنتصر في النهاية؟ أم ستهزمك الأحداث!

هذا بالضبط ما وجدت نفسي انزلق إليه دون أن أدري في أواخر عام 2018، في التدوينة السابقة حدثتكم عن الاكتئاب ولكنني أخفيت جزءًا كبيرًا من السبب الفعلي، ظللت طويلًا أفكر كيف يمكن تمهيد الأمر إليكم وإلى؛ فتوقفت كليًا، سنة بأكملها على وضع الذهول الصامت، أحاول استيعاب الأمر بارتباك حقيقي، كلما هممت بالكتابة؛ نفدت مني الكلمات، أجلس أمام شاشة الكمبيوتر أحدق فيها بلا جدوى، ولكن ذلك الصوت الخفي ظل يؤنبني على جمودي ويذكرني أنني عاهدت نفسي على الصدق مهما حدث، فتلك التدوينات ليست سوى مرآه عاكسة لأفكاري وانفعالاتي وآلامي، فلا داعي إذن للاختباء والمواراة، وأحد أهم دوافعي الرئيسية للكتابة هو أن قصتي قد تلعب دورًا في حياة أحد القراء ليتفادى أخطائي ويتجنب مأزقي الحالي.

في هذا المقال ستجدون مفاجآت عدة، ليست سارة بالضرورة، ولكنها مصيرية، أيضًا ستجدون العديد من المصطلحات الطبية، سأحاول شرح البعض منها والبعض الأخر قد يحتاج إلى مقالات منفصلة، اتبعت فيه أسلوب السرد القصصي إلى حدٍ كبير كما أتصوره داخل ذهني، قصة درامية مشوقة لم يستدل على نهايتها حتى الآن!

من أين أبدأ؟

خريف 2018

عانيت من هجمة شديدة للمرض، آلام متفرقة تشمل المفاصل والعضلات في الجسم بأكمله، وتزداد حدة في الركبتين والرسغين، انتفخت أصابعي حتى ما عادت تصلح لارتداء أي خاتم، وخذلتني يداي فما عدت استطع حمل الأكواب الممتلئة، أصبح النوم صعب المنال وباتت الخمس ساعات المتواصلة بمثابة إنجاز نادر الحدوث، وبلغ معدل سرعة الترسيب لدي 90 فما فوق بينما في الأشخاص الطبيعية من المفترض آلا يزيد عن 20، مع وجود ارتفاع غير مبرر لدرجة حرارتي لتبلغ 38 أو 37 ونصف بدون استجابة مجدية لخوافض الحرارة، هذا بجانب مشكلتي الأزلية في انخفاض كريات الدم البيضاء التي تبلغ 2300، بينما من المفترض آلا تقل عند الشخص الطبيعي عن 4000، ذهبت إلى طبيبتي المعتادة ولكنها لم تكن متاحة فقد سافرت خارج البلاد، فاضطررت للبحث عن بديل..

استقبلتني الطبيبة الجديدة بابتسامة متحفظة وتساءلت “ما وراء الشباب الجميل؟” فرويت لها القصة منذ البداية وتحملتني مشكورة وأنصتت بعناية ثم خفتت ابتسامتها تدريجيًا وحل مكانها وجه الأطباء الجامد الذي اعتدت رؤيته، طالعت تحاليلي باهتمام ثم ألقت بسؤالها ” كيف تم تشخيصك بالذئبة الحمراء؟”

فأجبت “في الحقيقة هناك أكثر من طبيب قد شخصني بالمرض بعد الفحص السريري، وأسفرت تحاليلي عن وجود خلل مناعي فجاءت النتائج إيجابية ل Antinuclear Antibodies (ANA)  وborder line لتحليل (Anti ds-DNA) بينما تحليل (Anti CCP) سلبيًا، فتم استبعاد الروماتويد بشكل رئيسي واجتمعوا على الذئبة الحمراء”.

ثم فجرت مفاجأتها…

“مريضة الذئبة الحمراء لا يمكن أن تظل كليتيها بلا أي مشاكل طيلة الخمس سنوات”

وهو أمر سمعته كثيرًا من قِبل عدة أطباء وكنت أعتبره رد قاسي وسخيف، ألا يوجد استثناءات؟ ماذا عن رحمة الله؟

ثم استطردت “أنتِ لست مريضة بالذئبة الحمراء، بل بمرضٍ أخر، (Anti ds-DNA) هذا التحليل خاطئ، نتيجته إما إيجابية أو سلبية، لا معنى لborder line، سنحتاج إلى إعادة التحاليل بأكملها مع أشعة مقطعية بالصبغة على الصدر لكي نطمئن على رئتيك”

للوهلة الأولى لم أفهم ماذا تقصد تلك الطبيبة، ظللت باهتة أحملق في الفراغ بينما تتابع حديثها وفي ذهني يتداعى شريط الذكريات المتواصل للخمس سنوات التي قضيتها من عمري وأصبحت سرابًا في ثوان، إذا كنت غير مصابة بالذئبة الحمراء كما تقول ماذا إذن.. عن كل هولاء الأطباء الذين قاموا بتشخيصي من قبل، لماذا لم ينتبهوا إلى هذا الخطأ؟ ماذا عن الأدوية التي تناولتها على مدار سنوات الماضية، ماذا عن تدويناتي؟ هل كنت أهلوس؟ ترى هل أصحو من النوم لأجد الأمر كأنه مجرد كابوس وانتهى؟ هل أكتشف أنني مصابة بمرضٍ بسيط وأبالغ؟ هل يؤول الأمر في النهاية إلى مجرد نقص في الفيتامينات؟

ولكنها حطمت أفكاري البلهاء وأردفت ببساطة شديدة:

“أعتقد أن لديك مرض مناعي أخر، دعينا لا نخمن، سننتظر التحاليل ونرى”

وهكذا يا أعزائي تغيرت خارطة حياتي، غمرني الارتباك وأصبح عقلي مشوش، كنت في حاجة لمتنفس كي أجمع شتات أفكاري المبعثرة، فتركت قدماي تسوقني إلى الطريق، والطريق كان مزدحم بالبشر ذهابًا وإيابًا، حشود تهرول من أجل الوصول لهدفها، بينما أمشي تائهة، تبدو خطواتي بطيئة ونظراتي زائغة، شعُرت كأنني ويل سميث في واحدة من أشهر اللقطات في فيلم Pursuit of happiness ، حينما يتساءل “لماذا لا أبدو سعيدًا مثلهم؟”، شعُرت بأنه تم خداعي من قبل معمل التحاليل والأطباء، وظللت ألوم نفسي على كوني لم أقم بإجراء هذا التحليل بالأخص أكثر من مرة، بالرغم من إجرائي لمختلف التحاليل الأخرى عدة مرات في معامل مختلفة، لأنني بطبيعتي أردت التأكد مرارًا من حقيقة الخلل المناعي الذي طال خلاياي، وسأصارحكم بأنني كل مرة قمت بإجراء تحليل Antinuclear Antibodies (ANA) أي فحص الأجسام المضادة للنواة وهو أحد التحاليل الرئيسية لتحديد وجود خلل مناعي من عدمه؛ كنت آمل أن تعود مناعتي لطبيعتها خاصة أن هذا التغير لم يكن موجودًا قبل إصابتي بحمى الغدد الليمفاوية (تجدون القصة كاملة في هذه التدوينة)، ولكن النتيجة استمرت في إحباطي لأنها ظلت إيجابية دائمًا.

قمت بإجراء التحاليل الجديدة المطلوبة، وانتظرت نتائجها بفارغ الصبر، وفور استلامي للأوراق المطبوعة، بحثت عن التحليل المنشود والذي ظهرت نتيجته سالبة، إذن صدقت الطبيبة، وهناك مجموعة من التحاليل المناعية الإيجابية مثلAnti RNP, Anti-Ro ، ومجموعة أخرى سالبة – أحمد الله أن هناك ما هو سالب- ترى ماذا يجري داخل جسدي؟  ماذا تخبئ لي الأيام؟

هرعت إلى الطبيبة الجديدة، وأنا ارتجف من شدة القلق، أترقب تشخيصها الجديد..

“نتائج التحاليل تؤكد إصابتك بمتلازمة شوغرن”

وهو أمر ليس جديدًا على بل وأدركه منذ فترة بعيدة، وشوغرن هو مرض مناعي أخر من عائلة الأمراض المناعية الذاتية، ولكنه قد يصيب المريض بشكل أساسي أو قد يصاحب مرض مناعي أخر وهنا يسمي بالمرض الثانوي، أي يكون مصاحبًا للذئبة الحمراء أو الروماتويد أو التصلب الجلدي وغيرهم.

ثم أكملت “ولكنه مصاحب وليس أساسي، فمادام تحليلAnti RNP إيجابي بقوة في ظل مجموعة الأعراض التي تشعرين بها؛ فالتشخيص الصحيح هو إصابتك بمرضMixed connective tissue disease، سنقوم بوضع خطة علاجية جديدة لمواجهته ولكن لابد من إجراء الأشعة المقطعية على رئتيك في أقرب وقت”

كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذا المرض، الطبيبة أيضًا لم ترد منحي أي تفاصيل عنه، وهو ما زاد قلقي، فور عودتي للمنزل بحثت عبر الإنترنت لمعرفة ما هي طبيعة هذا المرض، فاكتشفت أن Mixed connective tissue disease أو داء النسيج الضام المختلط هو مرض يجمع بين ثلاث أمراض مناعية: الذئبة الحمراء وتصلب الجلد والتهاب العضلات، وأدركت بطبيعة الحال أن الأمر ازداد تعقيدًا، فلم يكتف جسدي بوجود مرض واحد بل وفقًا لتشخيص الطبيبة لدي داء متداخل يجمع بين عدة أمراض شرسة!

هل تصدقون أنني لم أتأثر كثيرًا، فمهما اختلف اسم المرض، يظل لعينًا، ويستمر معه نفس البروتوكول العلاجي المستخدم في الأمراض المناعية من أدوية مثبطة للمناعة وكورتيزون ومسكنات غير ستيرويدية، يهاجم أعضائي بلا هوادة، وأحاول بكل قوتي كبح جماحه، لقد اعتدت مواجهة التحديات، وشعاري هو” لا يضير الشاه سلخها بعد ذبحها”، ولكن ترى هل أتجاوز كل ذلك يومًا ما؟ هل تصبح حياتي عادية وقتًا ما؟ هل أحصل على هدنة لالتقاط أنفاسي؟

في التدوينة القادمة سأكمل لكم قصتي.. ستكتشفون نتائج الأشعة الغير متوقعة، وزيارتي لطبيب أخر جديد، مزيد من التحاليل والأدوية، ومزيد من الآلام والخيبات المتواصلة، ستكتشفون حيرتي وتدركون على أي أرضٍ متهالكة أقف، دمتم سالمين ومثابرين وصابرين.