زمردة والذئبة الحمراء
زمردة والذئبة الحمراء

د

زمردة والذئبة الحمراء: عن الاكتئاب… الوحش الذي يطاردني

مرت فترة طويلة على آخر تدوينة لي، لقد استغرقت كتابة هذا المقال دهرًا؛ ظننت فيه أنه لن يكتمل أبدًا، هذه المرة وجب علي التنويه منذ البداية.. هذا المقال كئيب حقًا؛ قد لا تتناسب طبيعته السوداوية مع الأشخاص الطبيعيين، فإذا كنت راضيًا عن نفسك وحياتك وتتمتع بقدر من الهدوء والسعادة، فلا أنصحك بقراءة المقال، سينقل لك تجربة يتخللها اليأس والإحباط.. صدقني أنت في غنى عنها، أما إذا كنت على مشارف الاكتئاب أو مكتئب بالفعل… فربما وجدت في هذا المقال متنفس لما يدور في خلدك.

في البداية لا بد من ذكر بعض الحقائق المتعلقة بعلاقة مرضى الأمراض المناعية المزمنة بشكل عام بالاضطرابات النفسية:

– يعاني غالبية مرضى الأمراض المناعية من نوبات القلق والأرق واضطرابات النوم والمزاج أيضًا.

– وفقًا لدراسة بحثية حديثة: 50% من مرضى الأمراض المناعية يعانون من أعراض تشبه الاكتئاب.

– ما بين 15 إلى 60% من الأشخاص المصابين بمرضٍ مزمن؛ سيختبرون أعراض الاكتئاب السريري.

–  الآثار الجانبية للأدوية المعالجة للمرض نفسه قد تكون سببًا في الإصابة بالاكتئاب خاصة الكورتيزون بجرعات كبيرة (أكبر من 20 ملجرام).

الاكتئاب الذي أتحدث عنه يا أعزائي ليس نوبة بكاء أو غضب، ليس حزنًا مؤقتًا أو صرخات مكتومة، الاكتئاب الذي أشعر به أشبه بوحشٍ يجثم فوق صدري كالجاثوم – إن كنتم تعرفونه- يرافقني أينما ذهبت وكأنه حملٌ ثقيلٌ يربض على ظهري، يؤثر على مشاعري وأحلامي ويسيطر على نظراتي وأفكاري تجاه نفسي والآخرين.. كالأخطبوط الضخم الذي يحيط فريسته بأذرعه متعددة المنصات؛ فلا تجد مناص منه، أقوم بواجباتي ومسئولياتي كأم وزوجة بشكل ميكانيكي، بينما في الحقيقة فقدت شغفي بأغلب الأشياء التي اشتهيها، طموحاتي وهواياتي معلقة على الأرفف، كلما نظرت إليها شعرت بالذنب يخترقني، لدي يقين تام أنني لم أكن جيدة كفاية في أي شيء، بمعنى أخر أشعر أنني فاشلة وعاجزة عن مقاومة هذا الفشل، حتى على صعيد الأمومة أجد نفسي في كثير من الأحيان بلا طاقة أو قدرة على تحمل طفلتي المشاغبة، لا أحتمل مواعيد النوم المضطربة والصراخ المتواصل والفوضى المنزلية اليومية، أحاول قدر المستطاع تلبية احتياجاتها ولكن المتطلبات لا تنتهي، ولهذا تجدونني أجر نفسي جرًا في محاولات أزلية للإيفاء بكل هذا، أحيانًا أشعر أنه ربما من الأفضل لها أن تحظى بأم أخرى سليمة معافاة من المرض، بدلًا من أم تكافح للنهوض من سريرها، تستيقظ كل صباح لتستقبل أوجاعها بدلًا من اللعب معها.

أعترف أن الاكتئاب لا يضل طريقه أبدًا، فهو ينتظرني هناك عند بداية كل شتاء، أتصوره رجلًا –الشتاء أقصد- مهيبًا يرتدي عباءة رمادية اللون يمشي بين أوراق الشجر المتساقطة في الخريف بينما ينثر بيديه البرد والوحدة والمرض، الشتاء يا أعزائي هو عدوي الأول، تتحول أطرافي إلى اللون الأزرق طوال الوقت، فأنا مصابة بمتلازمة رينود (Raynaud’s phenomenon) وهي لمن لا يعرفونها ظاهرة تنتج عن الشعور بالبرد فتتحول الأطراف (اليدين والقدمين) من اللون الأحمر الطبيعي للأبيض ثم الأزرق المصحوب ببعض الألم، وقد تصيب الأشخاص العاديين كمرض أولي أو تصبح مرض ثانوي مصاحب للأمراض المناعية كالذئبة الحمراء والتصلب الجلدي (Scleroderma) وغيرها، وفي الأساس يحتاج المريض إلى تدفئة الأطراف بشكل متواصل أو استخدام علاج دوائي لتوسيع الأوعية الدموية، والشتاء الماضي كان الأقسى من كافة النواحي، لقد عانيت في بدايته من نوبة هجوم وارتفعت سرعة الترسيب لدي إلى 90 بينما في الأشخاص الطبيعيين تصل في أعلى معدلاتها إلى 20، ستعرفون المزيد عن الأمر في مقالاتي القادمة..

لماذا تبدو الاضطرابات النفسية جزءًا أصيلًا في حياة مرضى الأمراض المناعية؟

– هذا مرضٌ مزمنٌ، نضطر لمواجهته كل يوم بلا هوادة، فلا علاج سحري نهائي، ولم تُكتشف طريقة لتفادي الإصابة به حتى الآن.

–  الآخرين قد لا يفهمون مرضك، هناك من يراك سليمًا معافى ولكنك تتكاسل، وهناك من يتعاطف معك في البداية ثم يتناسى مع الوقت، البعض منهم قد يتجاهل تمامًا حقيقية مرضك، والبعض الأخر قد لا يتقبل وجودك كشريك حقيقي في حياته، ولهذا يميل أغلبنا إلى إخفاء الأمر والتكتم عليه كالأسرار الحربية، يؤلمنا الرفض المجتمعي أو العاطفي.. ونكره الشفقة والضعف.

–  تتغير خططنا باستمرار، فما خططنا له بالأمس وكتبناه ضمن قائمتنا اليومية، قد ينتهي بإتمام أمر أو اثنين على أقصى تقدير، وقد نضطر أحيانًا –إذا امتلكنا تلك الرفاهية- إلى تأجيل تلك المهام لأجلٍ غير مسمى.

– نواجه العديد من الآثار الجانبية للأدوية المختلفة، فمثلًا عقار هيدروكسي كلوروكوين (مضاد للملاريا) يؤثر على العين بشكلٍ كبير وفي حالات متقدمة قد يسبب تلف في شبكية العين، عقار الميثوتريكسات (مثبط مناعي) قد يؤدي لتليف الكبد، وتجربتي الشخصية للعقارين؛ الأول – تناولته لأربع سنوات- أصابني بصداع دائم في مقدمة رأسي مع التأثير على مدى وضوح الرؤية وعدم القدرة على النظر مباشرة إلى مصدر الضوء، الأخر جعل شعري يتساقط بغزارة وأنهك جسدي خاصة في اليوم التالي لتناوله (كنت أتناوله بصفة دورية في نفس اليوم كل أسبوع)، الآن أتناول عقار أزاثيوبرين (مثبط مناعي)، وهو يسبب لي انخفاض في عدد الصفائح الدموية وكريات الدم الحمراء ولكنني أتناول معه أقراص الحديد والفوليك وأحاول بقدر المستطاع تناول البروتينات بكميات كافية طوال اليوم.   

– لا يحظ الجميع بالدعم النفسي والأسري الكافي، وحتى الذين يحظون بهذا القدر من الدعم؛ يشعرون أنهم عالقين في أجسادهم بمفردهم، لا يستطيعون فهم أو استنتاج ردود أفعال أجسادهم.

– أن تكون مريضًا وأنت شاب/ة، يضعك أمام العديد من التساؤلات المقلقة حول مستقبلك ومسيرتك المهنية والزواج وأيضًا مشاكل الإنجاب لمريضات المناعة الذاتية.  

– لدينا تواصل شبه دائم مع الأطباء ومعامل التحاليل والأشعة، وهو أمر لا يبعث على الابتهاج، ونمتلك علاقة خاصة مع طبيب المناعة وكأنه بمثابة ولي أمرنا! إذا ذهبت إلى أي طبيب أخر تشكو من علة جديدة، غالبًا ما يرجع إلى طبيب المناعة الأول قبل كتابة الأدوية الجديدة أو إجراء أي عملية.

ماذا أفعل لمواجهة الاكتئاب الشتوي الموسمي؟

لا شيء حقيقي، لا استطيع ممارسة السباحة بشكلٍ منتظم خوفًا من الإصابة بنزلات البرد المستمرة، لا استطيع الخروج في معظم الأوقات لأن الجو بارد ممطر وعظامي متكسرة، ألجأ إلى المشي لمسافات طويلة لإخراج الشحنات السلبية قدر المستطاع، ولهذا تجدونني كل أسبوع وقد اصطحبت نفسي إلى أحد المراكز التجارية العملاقة، ستسألوني الآن لماذا (المول)؟!

لأنه مكان مغلق وبالتالي لن أتأثر بأحوال الجو المتقلبة بالخارج، ولديه القدرة على إغراقك وسط عالم من المشتتات، في الصباح لا يكون عادةً مكتظًا بالرواد، أتجول بين أروقته واستمتع بمشاهدة الملابس والأحذية والحقائب الجديدة البراقة، أجرب نوع مختلف من العطور كل مرة، وأتأمل واجهات المكتبات الممتلئة بالكتب وأتساءل هل سيكون لي كتاب بينهم يومًا ما؟ هل أصبح كاتبة معروفة؟ هل سيتسنى لي حينها الكشف عن مرضي أمام الجميع؟

أحاول معاملة جسدي بناءً على المقولة العربية الشهيرة “لا يضير الشاه سلخها بعد ذبحها”، فإذا كنت استيقظ في أغلب الأحيان ولدي آلام وأوجاع ما بعد التمرين في المركز الرياضي (الجيم) (التي قد يشعر بها المبتدئون بعد ساعتين من التمرين المتواصل)، فلماذا إذن لا أمشي لمسافات طويلة في محاولة لتشتيت ذهني عن منبع الألم الحقيقي! كنت قد اتخذت قرارًا باستشارة طبيب نفسي ولكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة، وتساءلت هل سأظل أتابع مع الطبيب النفسي طوال حياتي طالما أن المرض والأدوية هما سببان رئيسيان في اكتئابي؟ ثم ألا يكفي هذا الكم من الأطباء والتحاليل في حياتي؟ ناهيكم أن جلسات العلاج النفسي تحتاج إلى ميزانية طائلة.

والآن وقد هلت نسائم الربيع، يلوح في الأفق بصيص من الأمل؛ وأطارد المياه والدفء، تذكرني رائحة الزهور المتفتحة بتلك الطفلة المفعمة بالحيوية التي لطالما ابتهجت بأعياد الربيع والطفولة؛ فتراها تقفز بكل سلاسة على أسطح المكاتب الخشبية لتعليق الزينة في الفصول، أذكر قلقها وخوفها وهي تؤدي دورها في المسرحية المدرسية في حفل نهاية العام، وتعلم أن اجتياز الامتحانات بنجاح هو بوابة العبور للإجازة الصيفية في منزل جدتها، أذكر كيف كانت تجادل أباها لكي يقلها إلى المدرسة في وقتٍ أبكر كي تقرأ الأخبار في الإذاعة الصباحية، وكيف امتلأ قلبها بالحماسة والفخر بينما تسمع صوتها يدوي عبر الميكروفون.

في الشوارع التي شهدت طفولتي ومراهقتي..أمشي هائمة، أضع نظارتي الشمسية العملاقة وأتأمل المتاجر والبنايات، تبدو الشوارع أزحم وأضيق مما أتذكرها ولكنها مازالت تحمل نفس الأسماء والعمارات أيضًا، تتداعى الذكريات إلى ذهني الواحدة تلو الأخرى، هنا ركبت الدراجة للمرة الأولى وسقطت منها وجرحت ركبتي أيضًا، ذلك السور كنت أتسلقه واتباهى بقدراتي على المشي فوقه بكل رشاقة دون أن أسقط، على تلك الناصية هناك وقفت أنا وصديقاتي نتبادل الأحلام والضحكات…على تلك الناصية انتظرت الحافلة بينما أقرأ روايةً جديدةً وأتساءل متى سأصبح البطلة، وها أنا الآن..وقد أصبحت البطلة في رواية لم اخترها وأحداث لم أتخيلها وأتساءل كيف يمكن لتلك المراهقة الطموحة أن تتوقع ما ستواجهه في المستقبل، وهي تظن -بسذاجة الأطفال- على قدرتها في تغيير الكون، وفي صميم أعماقها تشعر أنها حقًا فتاة استثنائية…أتذكر تلك الصور بوضوح وأدرك أنني بعيدة عنها كل البعد الآن…ولن استرجعها أبدًا.

كانت الحياة وقتها بسيطة وسهلة، ذاكر…تنجح، اجتهد..تنل، تفوق.. تحصل على تقدير وحب معلميك، لا أعرف متى فلت مني زمام الأمور، متى أصبحت في زمرة اليائسين، أشعر أنني ظل باهت لتلك الفتاة، أتجنب التجمعات البشرية والصداقات الجديدة، وأضع دائمًا ابتسامة دبلوماسية هادئة أمام الناس، استمع أكثر مما أتحدث وأنصت إليهم طوال الوقت، وكأنني شخصان…الأول يتفاعل مع الآخرين ظاهريًا والأخر لا يرغب سوى بالاختباء!  

في النهاية أتمنى ألا يثقلكم حديثي، هذه المرة أشعر أنني قد أضفت قدرًا من الحزن إلى آلامكم، سامحوني لو تسلل الإحباط إلى كلماتي، وأعذروني على كآبتي.