زمردة والذئبة الحمراء
زمردة والذئبة الحمراء

د

زمردة والذئبة الحمراء: نصف الكوب الممتلئ…عن الرضا وأشياء أخرى

لعلكم سمعتم من قبل عن الحكمة القائلة “لا تنظر إلى النصف الفارغ من الكوب وانظر إلى النصف الممتلئ”، تلك المقولة التي نعزّي بها أنفسنا بينما تُجبرنا الحياة على خوض التجارب القاسية الواحدة تلو الأخرى، هل تساءلتم عن مدى واقعية تلك المقولة؟ هل يمكن بالفعل تطبيقها؟ أم أنها واحدة من تلك الحكم العجفاء التي تتناثر بين ثنيات الكتب دون جدوى حقيقية!

لطالما تساءلت عن نصفي الممتلئ من الكوب.. كيف يمكن لمحنتي المزمنة أن تكون مرشدتي في أحلك الظروف؟ هذة الضربات التي تتوالى على رأسي… كيف يمكن الاستفادة منها؟ اليوم سأتحدث معكم عن الرضا.. عن فن قبول الواقع والتعايش معه.. عن نصف الكوب الممتلئ، ولكن في البداية دعوني أصحبكم في رحلة قصيرة للوراء…

فبراير 2013

كنت في الرابعة والعشرين من العمر، شابة صغيرة وقليلة الخبرات تحمل الكثير من الأحلام والتطلعات، كثيرة الحركة ومحبة للاستكشاف، كنت قد قطعت على نفسي وعدًا بأن أحمل حقيبتي خلف ظهري وأسافر حول العالم، كانت تستهويني مغامرة ركوب القطار الأوروبي المعروف وزيارة أشهر المدن الأوربية، فكيف لا أقع في هوى القطارات وأنا أشاهد قطار (هوجورتس) السحري منذ الطفولة، عَمِلت في عدة وظائف.. أردت استكشاف مواهبي وقدراتي قدر المستطاع، بعضهم كان يتنبأ لي بمستقبلٍ باهر ككاتبة وبعضهم الآخر كان يرى أنني متواضعة الموهبة، آراء البشر لم تقلقني كثيرًا، فاندفاع الشباب وحماسته كانا القوة الدافعة وراء غالبية قراراتي.

كانت حياتي مزدحمة بالأفكار والأشخاص والأشياء، فراشةُ غناء تتفتح لها أبواب الدنيا حين أصيبت بحمى الغدد الليمفاوية ( فيروس ايبشتاين بار)، وهي واحدة من أشهر الحمى المخادعة لأنك ببساطة حين تظن بأنك قد شفيت تهاجمك من جديد، في الصباح ترتفع درجة حرارتي لتقارب الأربعين أو أكثر وفي المساء تنخفض لتقارب معدلاتها الطبيعية مع تناول الأدوية الخافضة للحرارة (باراسيتامول)، في البداية ظننت أنها إنفلونزا موسمية ولكن حين استمر الأمر لأكثر من أسبوع بدأت في القلق وخاصة مع تورم الغدد الليمفاوية في الرقبة وظهور بقع بيضاء على لساني.

أكاد أخمّن ما يدور في أذهانكم، نعم صحيح… لقد ساورني الشك حول إصابتي بسرطان هودجيكين (سرطان الغدد الليمفاوية) في بادئ الأمر ولكن تم تشخيصي بحمى الغدد الليمفاوية أو مرض التقبيل كما يطلق عليه الأطباء.

هذا المرض علاجه الوحيد هو الراحة التامة بدون أي مجهود فعلي، فرقدت في السرير لمدة شهر تقريبًا حتى تم السيطرة على ارتفاع درجات الحرارة بشكلٍ تام، وظننت بهذا أن المرضَ قد ولّى ولكنني كنت واهمة، فمن تبعات المرض الإصابة بمتلازمة التعب المزمن وهو ما حدث لي أو هكذا قيل لي، ستة أشهر وأنا لست على ما يرام… لدي كل أعراض متلازمة التعب المزمن التي لا يعلم الأطباء علاجها أو متى ستزول، ويؤسفني أن أخيب آمالكم؛ فالأمر لم يقتصر على ذلك فحسب بل كان يخبئ لي القدر مزيداً من المفاجآت!

أبريل 2013 

كاد الملل أن يفتك بي طَوال تلك الأشهر التي لازمتُ فيها المنزل بلا حراك؛ فصنعت قائمة من أفلام المغامرات والفانتازيا لمشاهدتها فلطالما كانت هي منفذي للهرب من الواقع، ولكن لسوء حظي اتخذت الوضع الخطأ للمشاهدة؛ لقد استندت إلى مرفقي الأيسر باستمرار، حتى لاحظت أنني لم أعد استطيع فرده بشكل كامل، وحين ذهبت للطبيب قال لي أنني أصبت بمرفق لاعب الجولف، وهي إصابة تصيب الرياضيين، ويتم معالجتها في غضون أسبوعين تقريبًا مع الأدوية المضادة للالتهاب والكريمات الموضعية.

هذه الإصابة كانت الأطرف على الإطلاق، فأنا – وقتها- لم أكن رياضية على الإطلاق، وكل ما أعرفه عن الرياضة حينها كان مشاهدتها عبر التلفاز!
 

أغسطس 2013

بعض البشر قد يمنحهم الله جسدًا متناسقًا أو وجهًا جميلًا؛ هبة إلهية من الخالق لا دخل لهم بها، وقد منحني الله صوتًا عذبًا أحبه كثيرًا، وهو جزء مميز في شخصيتي لطالما شكرتُ الله عليه، ولكن حينها بدأتُ ألاحظ وجود بحّة بسيطة في صوتي، فتجاهلت الأمر وخاصة أنني كنت مريضة لفترة طويلة ولم أقوَ على الحديث والثرثرة طويلًا، ولكن البحة ظلت تتزايد باستمرار حتى تحول الأمر من مجرد بحّة بسيطة إلى صعوبة حقيقية في الكلام!

ذهبت إلى عدة أطباء والتشخيص كان واحدًا… عقيدات على الأحبال الصوتية ولابد من إجراء جراحة منظار دقيقة لإزالتها، وفي أقل من أسبوعين وجدت نفسي في غرفة العمليات أنتظر الطبيب، كان ما يدور في خاطري وقتها هو شيءٌ واحد… أنني سأفيق من البنج وأنا أمتلك صوت الفنانة نعيمة الصغير (صدّق أو لا تصدّق…نعيمة الصغير كانت مطربة في صغرها)، ففي طفولتي كنت من محبي فيلم (العفاريت) وكنت أراها كائنًا أجشًا مرعبًا لطالما أخافني (رحمة الله عليها). 

تعليمات الطبيب كانت تقتضي بالتوقف عن الكلام لمدة شهر، ثم محاولة استخدام صوتي بشكل تجريبي والابتعاد عن أي نشاط قد يسبب الإرهاق الصوتي، كانت تجربة مؤلمة للغاية لقد ظللت شهرًا أتواصل مع الآخرين بالكتابةِ على الورق، كنت أنا وأفكاري فقط نتصارع داخل رأسي الصغير…. لا فضفضة مطولة مع الصديقات ولا دندنة صباحية كما اعتدت.

نوفمبر 2013

مرّ على جراحة الأحبال الصوتية ثلاثة أشهر، حمدًا لله لم يشبه صوتي نعيمة الصغير ولكنه تغير كثيرًا حتى ما كدت أعرفه، صوتٌ مبحوح ضعيف خافت بعيد كل البعد عن صوتي العذب الواضح الذي لطالما دندنت به طوال الوقت، في الواقع لم أبكِ كثيرًا على صوتي فكانت يشغلني تلك الآلام التي لا تتوقف، لقد ذهبت لأطباء العظام والباطنة دون جدوى، وانقسمت آراؤهم بين متلازمة التعب المزمن ونقص نسب فيتامين د والكالسيوم، ولكن يشاء الله أن تلتقي والدتي – وهي طبيبة بالمناسبة- صدفة بإحدى زميلاتها التي أخبرتها بضرورة إجراء الفحوصات والتحاليل المناعية في الدم، لأكتشف أخيرًا إصابتي بالذئبة الحمراء.

عن أي نصف كوب أتحدث؟

لو أنني سمعت أحدًا يحكي عن إصابة شخص واحد بكل تلك الأمراض في عامٍ واحد لظننته مبالغًا، فالأمر جدير بأن يكون قصة درامية عن الابتلاء وسوء الحظ، وخاصة لو علمتم أن ذلك العام كان العام الأول لخطبتي!

لاشك أن ذلك العام كان واحدًا من أصعب الأعوام التي مرّت علي دون مجادلة؛ لا أذكر عدد المرات التي ذهبت فيها إلى الأطباء أو المستشفى، ولكنني بنهاية العام كنت قد تغيرت كليًا، أعوامٌ أُضيفت إلى سنوات عمري الشابة، وأحلام تركتها أو ربما هي تركتني، في البداية كنت اسأل الله لماذا أنا؟ ثم حاولت الهرب من كل شيء وانغمست في عملٍ جديد بكل طاقتي المتبقية ولكنني لم أستطع الاستمرار سوى لخمسة أشهر، كان علي ترتيب أولوياتي ومعرفة كيفية التعامل مع جسدي في الفترة المقبلة، فاستقلت من عملي وبدأت رحلة التعايش مع المرض.

سأقول لكم ما الذي تعلمته من كل تلك المحن:

– لم أعد اسأل نفسي لماذا أنا؟ فسواء كان هذا ابتلاءً أو عقابًا؛ فعلي أن أتقبل حكمة الله فهو يعلم ما لا أعلم ويُدرك ما لا أدرك.

– أكسبني المرض عادة جيدة ألا وهي البحث المستفيض عن كل شيء، حتى ظن الأطباء أنني واحدة منهم، وإن كنت بالفعل تمنيت دراسة الطب في فترة من الفترات ولكنه أمر شبه مستحيل الآن فهو يحتاج إلى أموال طائلة بجانب معضلة أخرى وهي دراستي الأدبية.

– لولا المرض ما عرفت كل تلك المعلومات عن الأغذية الصحية ونمط الحياة الصحي الذي أتبعه، لولاه ما كنت سأدرك قيمة الرياضة كما أقدرها الآن.

  تعلمت الصبر والصمت، وباتت هوايتي الجديدة مراقبة الآخرين ومحاولة توقع أفعالهم.

– اعتزلت الناس طويلًا، لو يعلم البشر كيف تؤذي ألسنتهم الآخرين؛ لراجعوا أنفسهم قبل إلقاء كلماتهم القاسية. 

– أُدين بالفضل لأربعة أشخاص:

* جدتي رحمها الله التي لطالما قابلتني بوجهها البشوش في كل الأوقات وغمرتني بدعائها المستمر، كانت رؤيتها كفيلة بأن أتذكر تلك الطفلة الصغيرة التي اعتادت الجلوس في حِجرها بينما تغني لها. 

* أمي التي علمتني جيدًا كيف أتحدث مع الأطباء بلغتهم، كيف أفهم التحاليل ونتائج الفحوصات، كيف أبحث عن المادة الفعالة للدواء ومعرفة الآثار الجانبية وتأثيرات الدواء قبل استخدامه. 

* زوجي –خطيبي آنذاك- الذي لم يتركني في بداية الطريق واختار أن يُكملَ حياته معي رغم مرضي ووجود صعوبات بالحمل. 

* والدي هذا الرجل الذي رغم تخطيه سن الستين؛ كان رفيقي الدائم في معامل التحاليل وعيادات الأطباء، وبالرغم من اختلافي معه في الكثير من الآراء والمواقف إلا أن فلسفته الخاصة للتعامل مع مرضي كانت مطمئنة، فهو لم يهلع كأمي أو يرتبك كزوجي، لقد تعامل معي وكأنني مصابة بالبرد، ربما رفض عقله الاعتراف بإصابة طفلته بمرضٍ مزمن؛ ولكن الأكيد أنه حاول إخفاء قلقه بشتى الطرق، تحية عطرة لك يا أبي… فأنت سندي الحقيقي، وسامحني إن خيبت آمالك في يوم ما. 

في النهاية أحمد الله، وأدعوكم للتفاؤل، فلا نملك سوى الأمل في الشفاء. 

تدويناتي السابقة: حينما يهاجمك جسدك… عن تجربتي مع الذئبة الحمراء أتحدث! – زمردة والذئبة الحمراء…ترى هل يطير الطاووس؟!