أسما قدح
أسما قدح

د

مهدي، المهندس السياحي

ما الذي يعنيه أن تسير طوال اليوم في مدينة غريبة عنك، لا تبحث عن شيء معين، فيما قدماك تأخذك بلا هدىَ؟ سأقول لك، إنك تترك العنان لنفسك أن يكتشف كنوز المكان، ويخلّد تلك الذكرى في قلبك.

التقيت “مهدي”، العمود الثالث لمسكن “سايه سرايَ” في مدينة كاشان الإيرانية، قبل بضعة أسابيع. كان في ذهني سؤال واحد فقط: كيف لمهندس أن يكون مهتماً بصناعة السياحة؟!

مهدي، خجول ومبتسم طوال الوقت، شغوف بالموسيقى ويدقّ على الطبل الإيراني (تمبک بالفارسية) حينما يكون في مزاجٍ عالٍ. على الرغم من حبه للسفر والتعرف على الثقافات الأخرى، لم يسافر خارج إيران إلا في رحلة سياحية إلى تركيا، يقوده خلال تلك الرحلة شغفه وحبّه للتاريخ، والمعمار الإسلامي القديم. ثم في موطِنه، قادته قدماه إلى شيراز التي سار في شوارعها كل يوم ليزور عن كثب مزاراتها السياحية، ويمتّع ناظريه بجمالها الأخاذ. ثم يستريح على مقهى محلي في طريقه، مراقباً كيف يسيّر “الشيرازيون” شؤونهم، ويسمع حكاياتهم اليومية. وفي أيامٍ أخرى؛ أخذه شغفه بالسفر إلى الجبال والغابات في شمال إيران.

ولأن أسهل طريقة للتعرف على الثقافات الأخرى هي لقاء المسافرين والسائحين القادمين إلى كاشان، المدينة السياحية التاريخية في إيران، لجأ إلى “أزي“، ليتعلّم الإنجليزية على يديها، لتكون فيما بعد لغة مشتركة تسهّل عليه التحدث مع هؤلاء الزوار. انضمّ فيما بعد إلى “سايه سرايَ”، ليكون عمودها الثالث. يعرج إلى المسكن التاريخي الجميل كل يوم بعد عمله، ليمارس ما تعلّمه من الإنجليزية، ويحكي لهم عن إيران التي يراها كل يوم بعَينيه، وعن جمالها الساحر.

يذكر مهدي -حتى اليوم- الرحالة السويسرية التي التقاها قبل سنوات في مسكن سايه سراي. شابة لطيفة صغيرة، لاتزال في التاسعة عشر من عمرها، تسافر في الشرق الأوسط، حاملة حقيبة ظهر فقط، قطعت المسافة كاملة مابين مصر إلى إيران. حكَت له تلك الفتاة عن مغامرات سفرها في الشرق الأوسط، وعن “كابول” التي زارتها قبل ذلك. لم ينسَ مهدي كيف أثّرت تلك الحكايات على قلبه وعقله، يدور في ذهنه سؤال واحد: كيف لهذه الفتاة الصغيرة أن تكون جريئة ومغامرة بهذا الشكل. 

قصصت له حكاية “بوتيا”، رب بيت العائلة التي أقمت لديها في قرية بانلونغ الكمبودية. بدأ بوتيا بتأجير غرفة زائدة عن الحاجة في بيته للسائحين، ويضيف بداية كل موسم غرفتين جديدتين. يستقبل زائريه بنفسه من محطة الحافلات ويذهب بهم في جولة حول القرية الصغيرة، ثم تطبخ الزوجة مساءً عشاءً يجمع كل السائحين والعائلة معاً. يملك بوتيا الآن بيت ضيافة خاص به يطلّ على مرتفع أخضر طوال العام.

يذكرني مهدي ببوتيا كثيراً، خجله وابتسامته الدائمة، صوته الذي لا يعلو أبداً، ويتحدث على رتم هادئٍ جداً. 

ولأن إيران، مثل كل بلاد العالم قد تضررت من الجائحة، أصبحت الأنشطة الاجتماعية والخارجية محدودة للغاية، ولم يعد هناك سائحون يمكن لمهدي أن يتبادل معهم الحكايا. تجده الآن في أوقات فراغه أو في نهاية الأسبوع متجوّلاً شوارع كاشان في المساءات الدافئة يقود درّاجته، يطوف بالمدينة وزواياها العِبقة بالتاريخ. وفي أحسن الأحوال؛ يحمل دراجته في سيارته ليزور مدينة أخرى مجاورة، يغذّي عينيه وقلبه بجمال القرى الصغيرة المحيطة بكاشان مع أصدقائه المقربين. 

طرحت عليه سؤالي المعتاد، أين ستسافر اليوم إن استطعت؟

أخبرني أنه شغوف بباريس كثيراً، تجذبه شوارعها الضيقة، المقاهي الصغيرة المصطفة جوار بعضها، ومباينها القديمة، وبرج إيفل بالطبع. يرى نفسه دائماً ذلك الصبي الذي كبُر في “كاشان”، المدينة الصغيرة المُحاطة بالصحراء من كل جوانبها. تجذبه المدن الكبيرة، وأضواؤها، وزحام شوارعها، وضوضاؤها.  

مهدي، سيكون حتماً دليلي في شيراز حين أزورها، لأراها بعين خبيرة.