أسما قدح
أسما قدح

د

أزي، سيدة بيت الظل

لطالما عرّفني السفر بأُناسٍ أفاضِل من السكّان المحليين والمسافرين خلال السنوات الماضية. غالباً ما يبدأ ذلك بتحية بسيطة، أو موقف ظريف أو رحلة تسلق أو غوص قصيرة. لم يكن من السهل لقاء الكثيرين من المسافرين أو السكان المحليّين في أي بلدٍ آخر هذا العام، بما أنني لم أستطع السفر منذ وصلت ماليزيا في يناير. بحثت عن حلول أخرى للسفر عبر السفر الافتراضي، ولقاء السكان المحليين بنفس الطريقة. 

جمعني السفر الافتراضي هذه المرة بشخصية فريدة قلّما ألتقي مثلها خلال السفر؛ منطلِقة كالنسيم العليل، ضحوكة كالحياة الجميلة، وفي جعبتها الكثير من المغامرات والقصص. “أزاده“، سيدة إيرانية فاضِلة، تدير منزل ضيافة في مدينة كاشان التاريخية الجميلة التي تحدثت عنها سابقاً في مدونتي.

ابنة سائق الحافلات الخاصة بموظفي السفارات والسائحين، صحِبَته في رحلاته القصيرة، وكانت دائماً ما ترى مترجِماً يصحب الركاب. كان الأمر مثيراً للاهتمام لدى تلك الطفلة الصغيرة، وحينها طلبت من أختها التي تكبرها أن تعلّمها بعض الكلمات والجمل الإنجليزية. كبُرت مع الأيام وفي صدرها شغف كبير بتعلّم هذه اللغة التي تربط العالم ببعضه، حتى مع التعليم البسيط للغة في المدارس المحلية.

يتوافد السائحون من كل العالم إلى مدينة الزهور؛ كاشان، وفي كاشان القديمة كانت “أزي” -كما يناديها أصدقاؤها- صدفة مرشدة لسائح تونسي، “سمير” كما تذكُره، الذي كان هناك خلال إحدى الاحتفالات الدينية. سارت به إلى معالم المدينة القديمة، ثم أخذته إلى أمها التي تنسج السجّاد الإيراني على الطريقة التقليدية، وكهدية تذكارية لسمير، قدّمت “أزي” سجاداً صغيراً نسجته على الطريقة التي علّمتها والدتها.

في قلب هذه الطفلة مغامِرة صغيرة، فقد كانت أول رحلة تسافرها وحدها حينما كانت لا تزال في المدرسة الإبتدائية! تخيل. درَجت العادة أن تذهب عائلتها خلال الإجازات الأسبوعية إلى قرية والدتها، على مقربة من مدينة كاشان. ذات أسبوع؛ قررت أمها أن تسبِق “أزي” وأختها ووالدها إلى القرية، وكان من المفترض أن يلحقوا بها اليوم التالي، بعد انتهاء الصغيرتين من مدرستهما، لكن، قررت “أزي” المغامِرة أن تسبق والدها وأختها. أخبرت معلّمتها أنها لن تحضر إلى المدرسة في الغد، لأنها ستكون متعبة! ثم استقلّت الحافلة المؤدية إلى القرية بعد انتهاء المدرسة يوم الأربعاء. وصلَت بيت الجدة في القرية، وهناك فاجأت أمها.

كبُرت الطفلة، وتعلّمت الإنجليزية أكثر، بل وتخرّجت من الجامعة كمترجمة. ثم عمِلت به في طهران. مضت السنوات، ولازال في قلب الصغيرة شغف آخر غير الترجمة، كانت الأحلام أكبر من الأفق، وأكبر من أن تعمل مجرد مترجمة لشركة هندسية.

غادَرت عائدة إلى كاشان، وهناك؛ درست تعاليم السياحة والفندقة لتكون مرشِدة سياحية. ومن هنا، بدأت الحياة تأخذ منحىً آخر! سأدع “أزي” تروي لكم القصة؛

“درست سنة كاملة أسس السياحة والفندقة من خلال الدورة الوطنية في تنظيم التراث الثقافي، إضافة إلى اجتياز دورتين دوليتين لأكون مرشدة سياحية، وبدأت العمل في “منزل الطباطبائي” كدليل سياحي بحكم معرفتي الجيدة باللغة الإنجليزية. وكما هو متعارف عليه؛ كان لدى كل بيت تاريخي أو متحف رئيس للمرشدين السياحيين، يدعى “إبراهيم”، والذي طلَب مني مرافقته في إحدى الجولات بما أنه اليوم الأول لي، لكي أتعلم منه. لم يحدث ذلك طبعاً! أخبرته أنني قد درست عاماً كاملاً كل الأسس في هذا المجال، ولن أكون تابِعة متفرّجة لأربعة ساعاتٍ أخرى!

كبُرت طوال السنوات الماضية بشخصية قيادية، ولست أرى نفسي الآن أقوم بالعمل الذي أحب بينما أكون تابعة لشخص آخر. لذلك لم أحبّذ الفكرة طبعاً. لم يكن الأمر سهلاً بيني وإبراهيم، الكثير من النقاشات، والكثير من الاعتراضات، والكثير من المناورات.

تعرفون ما العجيب أكثر في هذه الحياة؟ بعد تسعة أشهر من العمل معاً، تقدم لي “إبراهيم” طالباً الزواج. تعجّب الأصدقاء حولنا والعاملون معنا، “كيف، وأنتما لا تظهران على وِفاقٍ دائماً.” ولكن، ها نحن معاً، خمسة عشر عاماً من الحب، والمودة.”

تُدير “أزي” منذ سنواتٍ بيت الضيافة “سايِه سراي“، تستضيف فيه السائحين الباحثين عن التجربة الإيرانية الحقيقية في كاشان، ليعيشوا مع عائلة محلية، في بيتٍ يزيد عمره عن مائتي سنة. تشاركت “أزي”، وإبراهيم وصديقهم “مهدي” في شرائه وترميمه، ثم تحويله إلى بيت الضيافة الذي يحمل اسماً فارسياً يمكن ترجمته إلى “بيت الظل”، ليكون ملاذ المسافرين وعابري السبيل.