أسما قدح
أسما قدح

د

إبراهيم، العندليب الإيراني

لم أكن يوماً أتميّز بذائقة موسيقية منفردة أو أفهم كيف يُكتب الشعر، أو أي قصيدة غنائية. لكنني أعرف الأصوات التي “تدخل القلب” سريعاً، حتى إن كنت لا أفهم كلمات الأغنية.

بدأت بسماع الأغاني باللغة الإنجليزية منذ كنت في الخامسة عشر، وكبقية أبناء الثمانينات عكفت على ألبومات مايكل جاكسون وبون جوفي وكوين. لم أكن أفهم الكلمات بشكل كامل، وكنت فقط أرددها. كبُرت أكثر، وانتهى الأمر بالاستماع إلى الأغاني بلغات أخرى كالإيطالية والإسبانية، وأستمتِع الآن بالموسيقى الألمانية.

كنت أعِدّ خلال الشهور الماضية تدوينة بيت الضيافة الإيراني “سايِه سرايِ“، وحين التقيت أزي، سيدة بيت الظل حكَت لي أثر السياحة والسفر على حياتها، وكيف أن العمل في صناعة السفر كمرشدة سياحية مهّد لها لقاء زوجها، السيد “إبراهيم” أيضاً. كان من الطبيعي أن ألتقي زوجها، وأتحدّث إليه أيضاً، فهو جزء أساسي من مسكن سايِه سرايِ الذي أتشوّق لزيارته. 

أقيم حفل زفاف والد إبراهيم على والدته في  سايِه سرايِ قبل سنوات طويلة، كان مجرد “بيت الجيران”، الملاصق لهم، والذي طالما تطايرت أحاديث سيدات البيوت على الأسطح المتجاورة. اشترى إبراهيم البيت حينما قرر أصحاب البيت القديم تركَه، لقيمته المعنوية لديه وعائلته. أعاد ترميم البيت بما يتناسب مع تاريخه أيضاً؛ بيت إيراني بُنِيَ قبل أكثر من 200 سنة لعائلة متوسطة الدخل.  

إبراهيم، موظف في إحدى البنوك الإيرانية، يتكرر روتين العمل يومياً، ويستنزف الكثير من طاقته الذهنية.

تعرف ما النقطة الأهم؟ له حنجرة، وصوتاً سلِساً يأخذك إلى عوالم أخرى. صوته العذب للغاية فاجأني حينما كنا نتحدث نحن الثلاثة، “أزي” تترجم أسئلتي وأجوبة إبراهيم، لم تكن اللغة حاجزاً هنا، فحتى حينما كان إبراهيم يغني بالفارسية، كان صوته الشجي يدخل إلى مكنون القلب. على نغمات تشبه “البنت الشلبية“، وبكلماتٍ فارسية بحتة. وليس من المستغرب أن يستخدم إبراهيم الغناء كوسية للتخاطب مع زائري “سايِه سرايِ”، يغني لهم كل ليلة، فيما “مهدي” يدقّ الطبل، وأزي تترجم في نهاية الأغنية.

في لقائنا القصير، كنت أراه مبتسماً طوال الوقت ومُنشرحاً للحياة، على الرغم من أنه كان للتو قادماً من عمله. كَونه موظف بنكي، يعني وجود الكثير من الضغوطات والتوتر، يخففه إبراهيم بالغناء في فترات الراحة مع أصدقاء العمل.

يذكر إبراهيم رحلاته الأولى مع والدَيه إلى مَشهد، المدينة التي كانوا يزورونها لحضور الاحتفالات الدينية المقامة هناك. ثم أخذته الحياة ليعمل في السعودية، في مكة على وجه التحديد. كان يقضي أياماً كثيرة أيضاً في “المدينة المنورة”، هناك يرتاح عقله وقلبه، وتعمّه السكينة، تأخذه المدينة النبوية إلى مكانٍ بعيد وكأنه خارج  هذا العالم المزحوم. التَمعت عينه بحبٍّ وهو يحكي عن المدينة المنوّرة، ويودّ لو يكرر زيارتها مرة أخرى. 

سألته -كما أفعل دائماً مع مَن ألتقيهم- عن السفر، وأين يأخذه؟ مصر وتركيا الغنيّتين بالحضارات القديمة، فيما تشدّه البرازيل التي يتزين أصحابها بالبهجة والسعادة، يقول إبراهيم “إنهم يبدون سعداء دائماً، وأريد أن أعرف سرّ سعادتهم”. الهند، بلد التنوّع الثقافي، ورغم الطبقية السائدة في تلك البلاد تجدهم يعيشون في بلاد واحدة بسلام فيما بينهم.

أكثر أمرٍ ثبَت في ذاكرتي من محادثتنا كانت الكيفية التي يرى فيها إبراهيم سايِه سرايِ، هناك مثلث متشابك؛ القيمة المعنوية، الضيوف المقيمين، والطاقة الإيجابية التي تعمّ المكان. لا يكون لبيت الظل جدوى حقيقية بدون إحدى الزوايا الثلاث هذه، كما يحدث الآن بعدم وجود الضيوف أو السائحين في ظل فايروس كورونا -سيء الذكر. لا تزال القيمة المعنوية قائمة طبعاً، والمرح سائد في المكان، لكنه ينقصه الزائرين. 

سألني إبراهيم قبل أن نختم مكالمتنا، “لقد التقيتِنا نحن الثلاثة مالكي بيت الظل، وسمعتِ قصصه، فكيف ترَينه الآن قبل أن تزوريه؟“. 

بيت الظل في مخيّلتي يشبه بيت العائلة، يلجأ إليه كل مَن يبحث عن الراحة في كنف العائلة، ضحكات أزي تدوّي في إحدى الزوايا، فيما إبراهيم ومهدي يغنون حول النافورة. يشبه بيت عائلتنا القديم، يزورنا أصدقاء والديّ القادمين من ماليزيا خلال مواسم العمرة والحج، لم يكن بيتنا فارغاً أبداً، هناك زائرين دائماً، وهناك مَن يقيم فيه ليلتين أو ثلاثة، ثم يغادرون. بيت الظل يذكّرني بيت عائلتي، بيت العائلة الذي يمكنك أن تجلس فيه إلى أي مدىً تريد لترتاح. بيت العائلة الذي يحب أن يزوره كل مَن يزور كاشان.