زيد الشريف
زيد الشريف

د

محاولة لقراءة (الزيني بركات)

قبل سنوات

في ليلة من ليالي ديسمبر -الباردة- وأثناء محاولاتي -دوزنة المزاج- باحتساء (قهوة فرنسي) في مقهى (المالكي) -أحد أشهر مقاهي (ساحة مسجد الحسين) بالقاهرة-

 فوجئت -ودون سابق إنذار- بمجموعة من الكتب تسقط على طاولتنا الخشبية، ثم بدأ صاحبها محاولاته -المستعطفة- لإغرائنا بالشراء.

وهو على تلك الحال، لمحت (أولاد حارتنا)، كان العنوان صارخًا، ومتوهجًا أكثر من البقية -هكذا بدا لي!-  وكيف لا يكون كذلك؛ وقد ارتبط في ذاكرتي؛ بنوبل، والتكفير، وأشياء من تلك الأحاديث التي سمعتها قبل أن أتعرف إلى نجيب محفوظ، بل حتى قبل أن أقرأ رواية واحدة له، أو لغيره!

انتزعت الكتاب، أخذت أقلبه بين يدي، متسائلاً .. هل ما أقوم به محرمًا؟!… ثم سحت في الذكريات، فتذكرت:

كان الموقف متأزمًا للغاية القصوى، من يجلب إلى بيته (طبق الدش) يحكم على نفسه، وأهل بيته بدخول النار! الموضوع لا يقبل الجدل، ولا يمكن لمسلم أن يرضى بوجود هذا الشيطان في بيته! لكن بعض (الفساق) يقال: أنهم جلبوه إلى بيوتهم! وكان لنا جارٌ من أولئك الفسقة. 

وكعادتي لم أستطع التغلب على فضولي. في الظهيرة، وبعد أن غط الجميع في القيلولة، تسحبت من تحت الفراش، حافي القدمين تسللت إلى بيت الجار (الفاسق) لأنظر إلى الشيطان الذي يدخل إلى النار! من بعيد بدا لي، أسود، كبير .. إقتربت أكثر -كنت خائفًا- لسعتني حرارة الشمس المسلطة عليه عندما لمسته؛  ففرت هاربًا. 

لم أخبر أحدًا بما حدث، كنت منقسمًا على نفسي؛ بين الخوف من أن أكون قد أذنبت، وبين فرحتي بأني قد تعرفت إلى ذلك الشيطان الذي كنت ألعنه مع اللاعنين، قبل أن أتعرف عليه!

 وبعد جدالٍ على السعر : اشتريت الكتاب -بثمن بخس- ومما شجعني على ذلك؛ ما وجدته على الغلاف الرئيسي  من كلمات للمفكر الإسلامي (محمد سليم العوا) التي برأ  فيها (أولاد حارتنا) مما نسب إليه من الكفريات.

كل ما سبق أعلاه هو عبارة عن أحاديث ٍ تناولتها مع ذاكرتي وأنا أقلب أخر صفحة في رواية (الزيني بركات) للمبدع الراحل (جمال الغيطاني) الذي -وجدته- يحاول من خلال هذا العمل ( أي الزيني بركات) أن يُشرِّح لنا  بنية (المجتمع الخائف) الذي يخاف فيه؛ الفرد من الفرد، والكل من الكل!

إن شخصيةً مثل (الزيني بركات) تملك في يدها سلطة الدين والسياسة لا يمكن إلا وأن تتغول على كل مفاهيم العدالة.

وهل يمكن أن نُعرِّف العدل؟

في نظر شخصية  كـ(زكريا بن راضي)  فإن العدل يقوم على أسس نفسه المريضة، وما توارثته الأجيال، في ذلك المجتمع المهشم منذ قرون خلت!

إن المجتمع الخائف لا يمكن أن يترك لبذرة صالحة المجال لأن تنمو بسلام. وأشد ما يُخوفُ به الناس في تلك المجتمعات -المريضة-  هو الدين. 

فهل الدين مصدر للخوف؟!

حينما ينغمس المجتمع في ظلمات الجهل؛ يخرج -على ابنائه- من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، من يسوقهم بسياط الدين، والدين منه براء!

إن تغول الخوف داخلنا من كل ما هو جديد؛ هو (الجاهلية) بعينها، التي يجب أن نحذر منها. وليس معنى هذا أن نقبل كل جديد؛ بل يجدر بنا أن نقيسه بمقياسه المتناسبة معه؛ لا أن نفعل به كما فعلنا بـ(أولاد حارتنا) التي احتاجت إلى فتوى حتى تصدر في بلدها (مصر) مع أن الأمر برمته لم يكن يحتاج إلا أن يفهم ( من حرم تداولها) أن لهذا الفن (الرواية) قوانينه التي يجب أن يتعلموا قراءة النص بناءً عليها، وأن يعلموها لغيرهم.

لقد نسج لنا (الغيطاني) حكايته من الواقع(المخيف) الذي لم يتغير في عالمنا العربي منذ ذلك العهد (المملوكي) وما قبله بقرون، إلى يوم الناس هذا! فصبرٌ جميل والله المستعان.

وبعد، فهذه ليست إلا قراءة شخصية لنصٍ يمكن أن تجد فيه ما لم أجد.