سلمى البكري
سلمى البكري

د

ليس للحرب وجه أنثوي!

الحياة حرب.. حرب مع نفسك، وحرب مع ظروفك، وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف.”

آه، حتى الكتابة عن الحرب صعبة. منذ بدأت هذا الكتاب وأنا لدي هذا الهاجس.. أن قلمي سيخونني في كتابة مراجعة تليق بفكرة كالحرب.

لكني فوجئت بالخيانة من باب آخر. تلك الخيانة في أن تكتب عن شيء لم تختبره أصلاً! مهما قرأت في الكتب والروايات عن الحروب والمعارك فإنك لن تصل أبداً بجوارحك لحالة واحدة من تلك التي تقرأ عنها.

وأتساءل ما الذي واجهته إذاً سفيتلانا أليكسييفيتش الكاتبة البيلاروسية لكتاب “ليس للحرب وجه أنثوي”. الذي ترجمه عن الروسية د.نزار عيون السود عن دار ممدوح عدوان للنشر وصدر في عام 2016.

الآلاف من الرسائل ومئات المقابلات أجرتها أليكسييفيتش لكي تفرز لنا عصارة الألم هذه. شهادات و قصص حية، تراجيديا من العيار الثقيل. كتاب برائحة البارود والدم.

الأمر أكبر من مجرد كلمات وقصص على ورق!

إنها حيوات شعوب بأكملها نحن نتحدث عنها هنا. أرواح أفراد كان منهم من لم يكن واثقاً أنه يريد أن يخوض حرباً فعلاً! حرباً لم يشارك حتى في إشعالها لكنه ملزم بإخماد نارها. تتعدد الأسباب مابين انتقام وإلزام.. والموت واحد!

لم أرَ للحرب صنيعاً واحداً في بني البشر.

“حاول أن تجد إنساناً جيداً في الحرب.”

وإن كان لها فضائل على الإنسان، فإنها فضائل كاذبة خدمت غيره، ودمرت من شاركوا فيها للأبد وإن عاشوا!

يُفاجَئُ المرء بالشخص الذي يصبح عليه، عندما يكون البقاء هو هدفه الوحيد. تلك الغريزة اللئيمة، شرورها يكمن في صمتها، في الثورة التي تفجرها في الإنسان دونما أن يشعر، فقط إذا نال منها إحساسٌ بالتهديد. في الحقيقة إنها تنتزع منه كل ما يجعله إنساناً.

لكن لهذا الكتاب سرده المميز. إنها الحرب كما لم تسمع عنها من قبل. إنك تقرأ أبشع القصص، تجول بذهنك أفظع الخيالات. هالةٌ بلون الدم الأحمر تحاوط كل ما حولك. قسوة كثقب أسود تلتهم كل ما هو جميل. وتَعي أثناء قراءتك أن هذا الكم من القسوة يُروى على لسان امرأة. “حوّاء” رفيقة آدم. الجنس الناعم ومُلَطّفات الحياة!

“اسأليني ما هي السعادة؟

أجيب:

أن أعثر بين القتلى على جريح.

على إنسان حي.”

الأكثر قهراً ألا تستطيع إحداهن مشاركة بطولتها في الحرب مع العالم، تتكتم عليها وكأنه سر سيودي بحياتها، تمحو أي أثر له مادام قابلاً للتدمير وتضع أطناناً من التجاهل فوق ذكرياتها عن تلك الحقبة. فقط… فقط كي تنعم بحياة طبيعية، حتى تشعر أنها مرغوبة من جديد وليست من مخلفات الحرب، ولكيلا يمر الناس بجانبها ويشتمون رائحة البارود والدم فيها.

هذا الكتاب عزيزي القارئ منعت الرقابة السوفيتية دور النشر من طباعته. كأنه الخوف من أن يتأصل في ذاكرة الأدب المجد الذي حققته النساء في تاريخ هذا العالم.

تقول أليكسييفيتش عن يوميات الكتاب: “علي أن أؤلف كتاباً عن الحرب، بحيث يشعر القارئ بالغثيان منها، و كي تغدو فكرة الحرب ذاتها كريهة، مجنونة. كي يشعر الجنرالات أنفسهم بالغثيان…

“ثمة عالم كامل مخفيّ. لقد بقيت حربهنّ مجهولة.”

أن ترى الحرب بأعينٍ خُلقت لكي ترى الأشياء جميلة ورقيقة. هذا يخبرك أن الأمر حقاً كان كارثة حية. أن تحمل النساء الجثث والأسلحة في آن واحد، تضمد الجرحى، تقود الدبابات والطائرات، ترأس الكتائب وتفك الشفرات وتحصد الجرحى والموتى وتفتش عن أرواح حية تحت أكوام الجثث. وفي النهاية بعد أن يحل الصمت على كل شيء، ربما، ربما ستبحث عن نفسها في الحريق الذي أخلفته الحرب فيها. الفوضى والانسلاخ من الطبيعة البشرية وإقامة حياة كاملة ولو بالدم لم يكن أبداً ليعيق امرأة عن أداء واجبها.

في كل زمان و مكان… العظمة للنساء!