يزن مهنا
يزن مهنا

د

رحّالة في بلاد العجائِب: جمهورية بهارات 1

لعلّ الاسم غريب جداً، فالغالبية القصوى من العرب لا يعرفون جمهورية بهارات ولم يسمعوا بها حتى، بل إن البهارات لديهم هي التوابل التي تستخدم في الطبخ فقط، فالمعلومة الجديدة هنا أن الاسم الحقيقي للهند هو جمهورية بهارات. والهنود يطلقون عليها هذا الاسم أما اسم الهند أو انديا فهو اسم أطلقه المستعمر البريطاني على الدولة.

أنا قد تجهزت لآخذكم معي في رحلة حجّ هندوسية في جمهورية بهارات، في عيد باريكراما الهندوسي الذي شاركت به بين أكتوبر-نوفمبر، ويحتفل به كل عام خلال فترة خمسة أيام تنتهي في يوم اكتمال القمر.

في إحدى مدن ولاية غوجارات الهندية تسمى جوناغاد حيث يقع جبل هائل في الجمال يسمّى ريفاتاك باهاتا، يرتفع بشكل كبير بين السهول، مغطى بمعابد طائفتي جاين والهندوسية الموجودتين بكثافة في الهند، يأتي الحجاج المؤمنون بالطائفتين من جميع أنحاء العالم لتجربة مذهلة مع التسلق الطويل الذي يصل إلى 10000 درجة حجرية إلى القمة، يبلغ عرض كل درجة حوالي متر ونصف المتر وقد كنت من مجرّبي هذه الرحلة.


سلسلة جبال ريفاتاك باهاتا في الهند

عليك أن تكون مستعدًا لقضاء يوم كامل إذا كنت تريد الوصول إلى أعلى المعابد وأكثرها قدسية عند الهندوس. يعد الصعود في ضوء الصباح الباكر تجربة سحرية، حيث يصعد الحجاج والحمالون الدرج محاولين الوصول إلى نقطة العشر آلاف درجة بأسرع وقت لتأدية الصلاة الصوفية الهندوسية في المعبد الصوفي في قمة الجبال ثم النزول بعدها.

الصعود متعب جداً في الشمس الحارقة، لكن ما يسكّنه هو المناظر الطبيعية الخلّابة التي تتميز بها المنطقة، أثناء الصعود ستصادف آلاف الهندوسيين والجانيين يصعدون حولك منهم سيراً على الأقدام ومنهم محمولين على الأكتاف لعدم قدرتهم على الصعود بسبب المرض أو كبر السن وهم بطبيعة الحال أسرع منك في الصعود كونها قد لا تكون أول مرة لهم فالفريضة تقول أنه الإنسان عليه أن يصعد للصلاة في قمة الجبل خمس مرات في حياته كي يتمم الفريضة بشكل كامل.


الدّرج تصويري الشخصي

على طول الطريق أيضاً ستجد عند كل عدة آلاف درجة مدينة دينية أثرية مختلفة بمعابدها المزينة بالزخارف والفسيفساء، تقع معابد طائفة جاين المميزة على الطريق أيضاً، وهي مجموعة من القباب المزينة بالفسيفساء تتخللها أبراج متقنة الزخرفة.
الأكبر والأقدم هو معبد (نيميناث) الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر، والملفت أكثر هناك معبد ماليناث الثلاثي الرائع من خلال تاريخه وعمارته المميزة، بني في عام 1177 من قبل شقيقين متصوفين، حيث خلال الأعياد الدينية، يزور هذا المعبد آلاف من الرهبان والرؤساء الروحيين  الهندوسيين، بقصد الصلاة والعبادة.

المعبد الأكبر الذي دخلناه كان معبد أمبا ماتا، حيث يتعبد المتزوجون حديثًا هناك لضمان زواج سعيد ولم تسمح لنا الشرطة أن نصور داخل المعابد كما أي منطقة أثرية هندية!


(معبد ماليناث الثلاثي) تصويري الشخصي

التفاصيل المعمارية في معبد نيميناث

معبد أمبا ماتا للمتزوجين حديثاً ووراؤه بين الجبال مدينة جوناغاد الحضرية، تصويري الشخصي

خلال الطريق الطويل الذي امتد لخمس ساعات صعوداً سترى الحيوانات البرية كالسناجب والقطط البرية والقرود التي تحكم المكان وهي الأكثر كثافة هناك، تشكل مجتمعات متراصة جداً تلحق النّاس هناك كي يطعموها، وثم تنادي بعضها بعضاً حتى يتجمعوا حولك كي تطعمهم والحمد لله كنت أحمل معي كيلين من الموز! حيث أننا لو تجاهلناها ستركز جهدها على أن تلحقنا لتلقننا درساً بالحجارة وشد الشعر، ولكن لطالما أننا أطعمناهم فنحن أصدقاء طوال الرحلة.

أيضاً على امتداد الطريق الصعب ستلاحظ العشرات من الأكشاك ومراكز البيع، يبيعون المياه وعصير البرتقال وقصب السكر والهدايا والتذكارات يتم نقل البضائع الى كل منها يومياً بالأطنان.

تبدو الجبال والسهول أثناء الصعود كمحيط من الشجر على مد النظر لا يخترقها شيء سوى الغيوم والمعابد التاريخية ويخرق السماء عدة أنواع من الصقور والنسور الضخمة، تشكل أثناء طيرانها في الجو منظراً طبيعياً خلاباً كما لو أننا في فيلم وثائقيّ، يصدح صوتها في أذنك طوال الطريق صعودا ونزولاً.

عند وصولك لنقطة الـ 10 آلاف درجة ستجد المعابد الأثرية أيضاً بداخلها عشرات الكيلوغرامات من الذهب الذي ينذره المتعبدون للمعبد والفقراء كمثل الزكاة، تدخل لدقائق كأجنبي ثم يتوجب عليك الخروج، والصادم أنه بعد هذه الرحلة المتعبة يتوجب عليك النزول فورًا بدون استراحة لضيق المكان، وللنزول قصة متعبة أخرى.

في النزول ستنتبه لتفاصيل جديدة حيث يتيح لك النزول رؤية أسطح المعابد التي لحظتها أثناء صعودك حيث أسقفها كلها مزينة بالفسيفساء الملونة وكأنما تتباهى فيما بينها من منها الأجمل.


في أعلى هذه القمة هي نقطة ال 10 آلاف درجة ارتفاعاً

معبد أمبا ماتا ليلاً ومن وراؤه مدينة جوناغاد (الصورة من موقع ولاية غوجارات)

للنزول قصة متعبة من وجع المفاصل والتعب الجسدي فالنزول أطول مدة من الصعود استمر لسبع ساعات كاملة، عندما تنتهي يلاقيك في أسفل قمة الجبل مجموعة من رجال الدين الهندوس كل منهم يحاول أن يدعوك لترتاح في معبده مجاناً دون مقابل أو حتى محاولة لإدخالك في دينه، هم فقط يريدون الترحيب بالزوار، بعضهم يقدم لك الطعام الهندي الحار وبعضهم يقدم المشروب الكحولي للاسترخاء أو حتى الحشيش! لكنهم قدموا لنا اللبن والماء والطعام فقط عندما علموا أننا مسلمين  وقرروا أخذنا في رحلة كانت تضاهي جمال الغابات و الجبال، رحلة الى أهم موقع إسلامي في المدينة (مسجد مقبرة ماهابات) أو كما يسمى بالهندية Mahabat Maqbara.


مسجد مقبرة ماهابات في جوناغاد الهندية (موقع ولاية غوجارات)

على طول طريق مزدحم في قلب مدينة جوناغاد، تقع واحدة من أندر الظواهر المعمارية شهرة في الهند، وأكثرها دهشة. مزيج ساحر من الزخرفة القوطية والإسلامية، “لا يزال هذا المجمع أحد أفضل الأسرار المحفوظة في الهند” هكذا قال الناسك الهندي.

 هيكل معماري مذهل هو ضريح الوزير بهاد الدين حسينباي، أحد النبلاء الرئيسيين في محكمة نواب ماهاباد خان الثاني في جوناغاد. بدأ بناء المجمع ذي الجدران الصفراء في عام 1878 من قبل مهابات خان جي واكتمل في عام 1892 من قبل خليفته ماهابات بهادور خان جي. 

تلاحظ فوراً المنحوتات المتقنة على الواجهات الداخلية والخارجية للمبنى، والأقواس الجميلة، والنوافذ ذات الطراز الفرنسي، والأعمدة والمداخل الفضية اللامعة في المسجد، كل مئذنة محاطة من أعلى إلى أسفل بسلالم متعرجة ويعلو كلا المبنيين قبب مميزة. اما استفساري عن التسمية فكلمة ماهابات بالهندية تعني المحبّة أو المحبوب كما جاءت هنا، فلربما من بنى هذا المسجد الرائع كان محبوباً.

هذه التجربة مذهلة في تفاصيلها من جمال الغابات والجبال التي ستصادفها أثناء طريقك صعوداً ونزولاً، مذهلة في جمال المباني، في معرفة التاريخ، في الذكريات الصورية التي تحملها منها، في لطف ومودة النّاس هناك، دائماً أقول في نفسي كم كنت ندمت لو أني لم أجربها ولكني متأكد أنني لن أجربها مرة أخرى، فلا أستطيع أن أتحمل تشنج العضلات أسبوعاً كاملاً مرّة أخرى!


صورتي في قمة الجبل على ارتفاع 10 الاف درجة ومع كل منّا عكّاز تساعده في الصعود والنزول.