يزن مهنا
يزن مهنا

د

رحّالة في بلاد العجائِب: عندما تأسرك مدينة البحيرات!

في وسط ولاية راجستان إحدى أقدم ولايات جمهورية بهارات (الهند) وأكثرها عراقة، زرت مدينة أوديبور، فعندما تقرر الذهاب الى مدينة البحيرات التي تعد خامس أقدم مدينة في شرق آسيا عليك أن تكون مستعدّاً لجرعة عالية من الإسترخاء، وأن تضع كل طاقتك في إحساسك لفهم سحرها.

أوديبور، وجهة سياحية ملكية للمسافرين الذين يحبون التاريخ والثقافة والهندسة المعمارية إنها وجهة شهيرة نظرًا لقصورها الضخمة والحصون القديمة والبحيرات الجميلة والحدائق الخضراء المورقة والمعابد القديمة واللوحات الرومانسية التاريخية.


مدينة أوديبور

تتميز أوديبور بنوع استوائي من الظروف المناخية حيث تبلغ درجة الحرارة القصوى 42 درجة مئوية والحد الأدنى هو 28.8 درجة مئوية في الصيف، أما الشتاء فمعتدل للغاية. فإن أفضل وقت لاستكشافها هو من سبتمبر إلى مارس.

ما إن تدخل مدينتها القديمة، حتى تشعر أن كل شيء هنا يعود لعصر آخر، البيوت والمحلات المزدحمة وحتى التحف المنحوتة يدويّاً، يبدو كل شيء هنا من عالم آخراً، المدينة القديمة مصممة على شكل طريق طويل أثري مرصوف وعلى حوافه أبنية أثرية أيضاً بعضها يصل لست طوابق، كلها تتميز بالعمارة المميزة والأضواء الصفراء والأسقف ذات الرسومات، وعلى سطح كل منها مطعم يطلّ على المدينة.


المدينة القديمة في أوديبور

ما أن تصل إلى آخر الطريق الطويل حتى تظهر لك بحيرة  بيتشولا الرّائعة، وترى على امتداد شواطئها الفنادق المبنية على النموذج الهندي فتتزين بالقبب والشبابيك المزخرفة والسّتائر الحريرية، وفي وسطها بضع جزر صغيرة على كل منها فندق ساحر الجمال، حيث الأضواء والفوانيس على كل مبنى.
يتسابق الناس في اوديبور لخدمتك ومساعدتك حيث أغلبيتهم من أتباع الديانية اليانيّة، التي تؤمن بالسلام المطلق مع الحياة والأشياء والمخلوقات، هذا السلام تشعرك فيه المدينة منذ أن تطأ قدمك أرضها.


بحيرة بيتشولا ليلاً

اليانية هي واحدة من أقدم الديانات في العالم، ومعنى الإسم بالسنسكريتية قوة الحياة، لأنه يؤكد أن جميع الكائنات الحية تمتلك روحًا خالدة كانت موجودة دائمًا وستظل موجودة أبداً وأن روح المرء إذا ما قام بالتّركيز عليها فيمكنها أن تتحرر من معاناة الدنيا، وتفاصيلها.

يؤمن اليانيون أن المخلوقات كلها أرواح يجب تقديسها واحترامها، وأن جميع الكائنات الحية تمتلك روحًا خالدة كانت موجودة وستظل موجودة ولايجوز إهانة أو جرح أو أذية أي منها لا بكلمة ولا بفعل، متصالحون مع بعضهم ومع أنفسهم ومع كل ماحولهم بمحبة شديدة، لدرجة أن بعضهم يخشى أن يقتلع جزرة ليأكلها فيقتل دودة في الأرض!

يقسم اليانيون على خمسة عهود: لا عنف، لا كذب، لا سرقة، لا خيانة للزوج، ولا تعلّق بالأشياء. هم لا يقسمون فقط ألا يفعلوا هذه الأمور بل بألا يفكروا بها أيضاً!
حدثني صديقي الهندي اليانيّ عن كل هذه التفاصيل، وهو يمشي بي بين أزقة المدينة التاريخية  حتى وصلنا الى مبنىً على ضفاف البحيرة في طابقه السادس قضينا ليلة هندية بامتياز كافية أن تعطيك طاقة للاسترخاء لأيام عدة، سحر المكان مساءً بفوانيسه الجميلة وبرودة طقسه وبساطة سكّانه، يأخذك الى زمن ألف ليلة وليلة، ستشعر بأنك شهريار بلياليها المذهلة!


المطعم المطل على البحيرة ومن خلفي الفنادق

في تلك السّهرة جلسنا على أرائك ضخمة على الأرض نتأمل البحيرة والمباني والفنادق على ضفافها، تناولت كتاباً عن اليانية، أدركت حين قرأته أن اليانية تعتقد حقّاً أن جميع الكائنات الحية تحركها روح خالدة عالقة في دورة إعادة الميلاد والموت الناجم عن الكارما، التي تراكمت من خلال أفعال المرء الماضية في حياته السّابقة. أي جذبت الحالة الروحية الأولية للفرد، أفعالها وأحاسيسها، فبمجرد أن يتعلق الأمر بالروح، يكون المرء ملزمًا بالتقمص بعد التقمص جيلاً بعد جيل..

يحترم اليانيون آراء الجميع حيث يؤمنون أن الحقيقة الموضوعية لا يمكن أن تظهر لأي شخص، فكل الآراء واردة دون تعصب.

أنا أقرأ وهم يبتسمون لي، يقدّمون الطّعام والشراب مرحّبين فالشعب الهندي مسالم ولطيف جداً، فكيف اذا ما كان يانيّاً.

للمدينة قصر ملكيّ كبير جداً، استمر بناؤه 400 عام، وافتتح عام 1553 ميلادي، وهو قصر كل مهراجا من سلالة ميوار، التي كانت تحكم المدينة قبل توحيد جمهورية الهند، حيث أن ولاية راجستان كانت سبع ممالك صغيرة لكل منها مهراجا وقصر وجيش ورمز، ويرمز الفيل إلى أوديبور.


قصر المهراجا كما يبدو من البحيرة

سيبدو القصر عند الدخول إليه كمدينة، حيث هنالك طرقات بداخله وأرصفه وصمم داخليّاً على أن يسهل صد الهجمات عبر ممراته وسراديبه، والمبنى محاط بالحدائق المنظمة ذات البوابات المعدنية الذهبية الكبرى، وعند كل مدخل ومخرج ستجد حرس الشرف واقفين، وكأنما المهراجا مازال ملكاً على المنطقة، بل على الهند بأسرها.

طول واجهة القصر 244 متراً وارتفاعها 30 متراً والجانب الفريد لهذا المبنى هو أن التصميم المعماري متجانس بشكل واضح. تم بناء مجمع القصر بالكامل من الجرانيت والرخام والتصميمات الداخلية لمجمع القصر بشرفاته وأبراجه وقبابه مكونة من مرايا دقيقة وأعمال رخامية وجداريات ولوحات جدارية وأعمال فضية وأعمال ترصيع وبقايا من الزجاج الملون.

للقصر طوابق عديدة وكل منها عشرات الغرف والقاعات، منها غرف زجاجية بالكامل ومنها غرف عاجيّة ذات نوافذ ملونة.


بوابة قصر المهراجا

خصصت مساحات واسعة جدّاً من القصر للتّرفيه، حيث أنه بداخل القصر وبين سراديبه هنالك حدائق ضخمه فيها نوافير رخامية أثرية، وساحات كبيرة جداً كأنها ساحة وسط مدينة وليست ساحة قصر.


إحدى قاعات القصر

في الطابق الأخير من القصر ستذهلك غرفة مفتوحة السقف وكبيرة المساحة وعلى جدرانها أقفاص قديمة جداً كانت تعجّ بالطيور، وفي مقدمتها الغربية هنالك شرفة  ملونة ومزخرفة مابين الأزرق والفيروزي والكحليّ، تسمى شرفة القصر العلوية، ما إن تنظر من نوافذها حتى تظهر لك مدينة أودايبور بكاملها، وتسمع أصوات الطيور الغريبة التي من الصعب جداً حفظ أسمائها أو حتى تتذكر عدد ألوانها، فهنالك طيور صفراء وطيور خضراء لامعة أو زرقاء وحمراء، ويتركز صوت زقزقتها جميعاً عند هذه الشرفة الزرقاء، مع هواء عليل يتحرك فيها باستمرار، حيث ستحسد المهراجا أنه نام فيها يوماً.


الشرفة العلوية لقصر المهراجا تصويري الشخصي

كلّ غرفة من القصر هي قصّة فنية بحد ذاتها مختلفة عن الأخرى، وفي كل زاوية إما صورة أو لوحة أو أدوات كان يستخدمها المهراجا، لكل تفصيلة رواية لا يمكن إحصائها بزيارة واحدة، ولا بآلاف الصور حيث المشي في القسم المسموح من القصر فقط سيستمر لثلاث ساعات، لكن أجمل ما فيه هي الغرف الزجاجية الفسيفسائية الملونة وأضوائها، والتي بنيت على يد أمهر البنائين في الهند، وهي ترمز لطاقة الإنسان وطاقة المكان، فالأضواء في الهند دائماً ترمز إلى الإيجابية.


غرف القصر الزجاجية

أصبحت ساحات القصر الخارجية اليوم منتجعات ومطاعم على النموذج الكلاسيكي الفرنسي والهندي، وبقيت الساحات الداخلية بدون أي استثمار حيث يقصدها السياح من كل أنحاء العالم ليمارسوا التأمل في حدائقه الضخمة ذات الأشجار شاهقة العلوّ، وأمام النوافير الأثرية يفضّل الكثيرون ممارسة اليوغا تحت سماء تعجّ بمختلف أنواع الطيور.


إحدى ساحات القصر ومن خلفي المطاعم الكلاسيكية

أؤمن أن للمدن طاقة و أرواح، نستشعرها ونتغذى منها، لا يكفي أن نرى بل أن نتحسّس، فمن قال أن المدن لا تتكلم؟ بالعكس فهي تتواصل مع الإنسان، تحكي له حكاياتها عبر السنين، وتترك فيه انطباعاتها.. فكل مدينة أزورها تغيّرني.. فكيف إن كانت مدينة راجستانية؟


صورة لمدينة أوديبور يظهر فيها القصر الملكي وبحيرة بيتشولا والفنادق حولها، وجبال أوديبور الخضراء