عبدالله الأحمد
عبدالله الأحمد

د

أشياءٌ لا تُشترى

حتى وإن بدت فيها الابتسامات التي يخيّل أنها لا تنتهي، ماذا تحمل تلك الصور من مشاعرٍ خلفها؟

تلك التي دوّنت ووثقت لحظات قد لا تكون موجودةً الآن. ربما قصفها القدر، انتشلتها صروف الزمان، أو هناك من طمسها، لكن لا شيء يحدث دون ردة فعل تكون مشابهة لوجع الفقد الذي انتشل شخصًا أو لحظةً كانت موجودةً في تلك الصور.

بعد أن قضى ليله مترددًا بين تلك القصائد التي كانت وما زالت شغفه مذ دراسته للأدب الإنجليزي وتحديدًا مادة الشعر عند ذلك الدكتور الذي يصرخ بالقصائد وكأنه ليس أمام طلّاب، بل في مكانٍ ضخم كالكولوسيوم في روما والذي كان وما زال حديث زمانه، وقف عند قصيدة أمل دنقل الذي عُرف عنه، أنّه كان يوثّق قصائده على علبة السجائر؛ حتى لا ينساها. من أحشاء الصعيد ظهر أمل الذي سميّ بهذا الاسم في نفس العام الذي حقق فيه والده إجازة عالمية وهي الأستاذية في الأزهر.

إبان توقيع معاهدة السلام، لم يكن الجميع راضين، وأحد أولئك كان أمل دنقل الذي سيصرخ لاحقًا بالقصيدة الشهيرة والتي أضحت عنوانًا في الحياة، قصيدة (لا تصالح).

من خلال تلك الكلمات، نرى صوروا وأشرطة حياة، نرى تلك اللحظات التي ندافع عنها حتى الرمق الأخير. لماذا ندافع عنها؟ لأنها هي الحياة بالنسبة لنا. لذلك الصور في جدراننا أو أدراجنا أو في الأماكن التي لا يصل إليها أحد، ولو كانت أفئدتنا، لا يصح أن نقول عنها أنّها مجرّد صورة، فمن خلال تأملها نتجاوز الزمن وما فيه لنعود بالذاكرة إلى الخلف ونحكي عن تلك المرحلة التي كان فيها لنا أيام لا تُنسى، لنقول أنّها صورة متحركة، وهي من الأشياء التي لا تُشارك ولا تُشترى، ذكرياتنا وصورنا ولحظات الحياة التي هي شيءٌ في تكويننا ومن خلالها تُعرف الهوية.

“أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى؟ هي أشياء لا تُشترى.” يسأل الشاعر بكل حنق في قصيدة ديدنها الغضب، وعنوانها السخط على كل أولئك الذين لا يدركون أنّنا لن نتخلى عن أي جزء منا ولو كان يسيرًا، من جُلّ التفاصيل حتى دقّها ولو كانت لوحةً متحركة في جدار المنزل كان فيها لنا نصيب من الحياة.

من يقرأ هذه القصيدة سيقف مزمجرًا في الشطر الذي يذكر فيه دنقل السواد وثياب الحداد. في شطرٍ آخر من الأشياء التي لا تُشترى، يحاول الشاعر هنا أن يعيدك للوراء، لتخرج من القصيدة مبتسمًا وأنت تعيد ذكريات الطفولة عندما قال: “ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك، حسّكما فجأة بالرجولة” ويجعلك واقفا مع نفسك، وهو يسألك أقلب الغريب كقلب أخيك؟

حياتنا لا تخلو من تلك الأشياء التي لا تُشترى. ذكرياتنا في المهد، مسرّاتنا العائلية، مبادئنا التي تضاهي عقائدنا، هي أشياء لا تُشترى، ضحكة الأحبة وأمان الأطفال بين أيدينا، والابتسامات التي لا تُخشى عواقبها، الكرامة وراحة البال، الأحلام والآمال وكل الانتظارات، الشرف وأعين الأحبة. أشياء لا تشترى. كأن تستمر تلك الصور الجدارية مشعة بمن فيها دون أن تسقط .

في الكلمات كلّ الصور التي نبحث عنها.