هبة الله حمدي
هبة الله حمدي

د

قلق السعي إلى الكمال.. المثالية البراقة

خلال جلستي مع إحدى الصديقات اللواتي شارفن على الزواج تطرق الحديث إلى ما يجب على العروس فعله وكان من ضمنها  “فرد الشعر بالبروتين ” وأتبعت قولها بأن جميع “العرايس” يخضعون له قبل الزواج ،وأنها ترغب بشدة في القيام به ،ورغم أنها تمتاز بشعر ناعم ذو كسرة خفيفة ،إلا أنها تضايقت حين أخبرتها بألا داعي لذلك ،قائلة أن هذا أمر لا غنى عنه وأن “كل البنات شعرهم ناعم ،وكلهم بيعملوه ” !.

أعتقد بأن واحدة من أبرز تجليات التقدم الطبي خصوصا وعلى وجه التجميل على أشد الخصوص هو أنه فتح الباب الدائم للشعور بالدونية وعقد المقارنات الدائمة والسعي الدائم تجاه المثالية ..

محاربة تقدم الزمن “كيف تبدو أصبا” :

تقدم العمُر أمرٌ حتمي ،والتغيرات التي تلحق بمضيه لا محالة قائمة ،لكن العصر الحديث يدفعنا لمحاربته لتأخير ظهوره كما يسمون ،للمحافظة على البشرة ،لتغيير لون الشعر ،ويتبارى النساء خصوصا في هذا المجال ،وتتعرض المرأة التي يبدو على ملامحها آثار الزمن الطبيعية  لتعجُّب المحيطين واستغرابهم ليصير الطبيعي أن يستخدم الجميع مساحيق التجميل ،أن يتحايلوا على الزمن ،يفتش الجميع عن كيف تبدو أصغر كيف تصير أجمل ،وينزف المرء في سبيل تحقيق ذلك الكثير من الطاقة الجسدية والمادية والنفسية أيضا !

والعروس ،كيف تصيرين مثالية لزوجك:

إن العروس في هذا تبذل جهدا عظيما لجعل كل مسام من مسامات الجلد كاملة خالية من كل عيب أو نقص  ،ويطل علينا كل يوم –دون مبالغة-حيل جديدة للقضاء على أشياء كانت لا تعد عيبا أبداً أو نقصاً في السابق ،فمن بداية منبت الشعر حتى إظفر إصبع القدم يجب أن يكون بلا عيب ،فما بين كريمات التفتيح ومنع ظهور الشعر الزائد حتى جلسات التقشير لتوحيد لون البشرة وحتى إزالة الحسنات وأي آثار لجرح قديم أو كدماتٍ طبيعية ،تتوتر الفتاة وتغدو هنا وهناك وتتردد ما بين مراكز التجميل وغيرها لتزداد حسناً وتوازي قريناتها على قول المحيطين لها وكي تعجب زوجها في النهاية ،فالإعلام الذي يعرض علينا نساءً بالغي الجمال بقوام يمتاز بكذا وبشرة خالية من أي شائبة ترفع دائما سقف التوقعات ويصير الرضا بما هو طبيعي أو بما كان طبيعيا سابقا أمرا شاقاً في النهاية ..

كمال المظهر ليس وحده المطلوب:

في مجتمعات ما بعد حداثية وفي عالم منفتح كعالم اليوم ،يتجلى في صفحات المواقع خصوصا مواقعُ التواصل الإجتماعي يستعرض الجميع تفاصيلهم وإنجازاتهم ،فهذا حصل على الدكتوراه في عمر صغير وتلك فقدت وزنها في وقت قصير وهذا وذاك ،يجد المرء نفسه تائها في كل تلك الفوضى إن شئنا تسميتها بذلك ويتسلل إليه رغما عنه الشعور بالنقص ويغزوه إحساس أنه متأخر دوما فمهما فعلت هناك دائما من سبقوك !

بل ويطال الأحاديث اليومية ما بين الأمهات على سبيل المثال ،فتتبارى تلك بتقدم ابنها وتقول أخرى “ابنك لسة متعلمش يكتب ابني بيكتب بلغتين “”لقد أنهينا مستووين في اللغة كيف لازال ولدك في المستوى الأول “وهكذا في كل المجالات وعلى كل المستويات والأصعدة فما بين النساء وفي جلسات الشباب وبين المراهقين والصغار أيضا ،وتبدو الحياة كما وأنها ماراثون متواصل للكمال ،رغم أنه لا وجود لمفهوم كهذا وأن المثالية ما هي إلا وهمٌ زائف ..

يستعرض المشاهير على صفحات التواصل أزياءهم وأجسادهم وممتلكاتهم وبيوتهم وشركاءَهم  ويتفاخرون بإنجازاتهم المادية والمهنية وغيرها فيتضاءل المرء أمام نفسه وتلفه الكآبة رغما عنه وتهتز نفسه .

ومع ازدياد التسابق كان لابد لنا من وقفة نعيد فيها الأمور إلى نصابها  ،إن العالم الذي يتبارى في سبيل القضاء على آثار الزمن والمحافظة على النفس البشرية ما استطاع إليه سبيلا ،لم يصل في حقيقته إلا إلى مزيد من الضغوطات والتيه والعبث ،ويغدو رغم كل الرفاهية المُقدمة له حائرا كئيبا فاقدا للكثير من متعة الحياة رغم كل الأضواء المسلطة على المتعة ،ويفقد المرء حقيقة طمأنينة نفسه وسلامه الداخلي ويصير أشبه بآلة ..

مهمة المصلحين ودور الآباء والأزواج :

إن واحداً من أهم الأمور التي على البالغ أن يركز فيها في هذا العصر ،هي ألا يطلب ممن أمامه أكثر من طاقته وأن يقدر أن هناك فروق فردية ما بين البشر وبعضهم ،وأن السعي لمزيدٍ من الكمال على صعيد الجمال مثلا سيكلف المرء أمورا قد تكون فوق استطاعته ،فالأب الذي يطلب من ولده أن يماثل قرينه في رياضة ما عليه أن يدرك أن البشر ليسوا سواسية وأنه لولا ذلك لصرنا جميعا مسوخاً من شخص واحد ،والزوج الذي ينتظر من زوجته جسدا بشكل ما ،ويتمعر حين يجد بقعةً نتجت عن كدمة أو ما شابه ،وينتظر أن تكون فتاته كاملة تلمع كنجمات السينما كما يظن،عليه أن يدرك أننا بشر ناقصون يتغير شكلنا حينا ،تترك الجروح وآثار الزمن بل وحتى المشاكل النفسية آثارها علينا ،وأن البحث عن الكمال لن يورث سوى شعورٍ دائم وعامٍ بالنقص ..