عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

الإباحية الناعمة.. أن تكون ضفدعاً مسلوقاً

عندما نأتي بضفدع ونضعهُ في طنجرة تحتوي على ماء ساخن درجة الغليان، ما المتوقع حدوثه؟ من الأكيد أنه بمجرد ملامسة قدم الضفدع لهذا الماء الساخن سيقفز ويهرب. لكن الحال قد يختلف ولربما يأتي الضفدع من تلقاء نفسهِ ويجلس وينام في طنجرة الماء المَغلي، عندما نقوم بذلك بشكل تراكمي بطيء!

عندما نأتي بماء بارد، ثم نضع الضفدع فيه ونحاول طمأنته بأن لا شيء سيحدث. ثم نضع الماء على درجة حرارة منخفضة جداً ونرفعها بالتدريج، سنرى حينها الضفدع يخدع نفسه بالتكيف ضمن تلك الطنجرة، ولربما في النهاية نجد الضفدع قد أصبح مسلوقاً وطبخ نفسهُ بنفسه دون أن يحدث أي ضجة!

يُمثّل الضفدع في المثال السابق، الإنسان في العصر الحالي، الذي يتعرض لسيل جارف ووابل عاصف لا مثيل له في تاريخ الحياة؛ من مفاهيم ونوافذ وذرائع ما يمكن تسميته بمفهوم «الإباحية الناعمة» الفخ الذي يجعله يذهب إلى الطنجرة طواعيةً، وينام فيها، ويلتحف بمائها الساخن ويتكيف مع ارتفاع درجة الحرارة -الضار لهُ حتماً- دون أن يشعر بأي شيء! أو بشكل أدق، يشعر بشيء، لكن معالجة الدماغ لهذه الدرجات الناعمة من الحرارة لا تشي بوجود خطر أو ضرر، فيموت شعور التنبيه شيئاً فشيء.

عصرنا عصر الإباحية، والإباحية هنا لا تعني مفهوم البورنوغرافيا وصناعة الأفلام الجنسية -التي هي جزء منها طبعاً- بقدر ما هو مفهوم «الإتاحية Availability» أي أن كل شيء مباح ومتاح ويمكن الوصول إليه، ولعلَ هذا بالضبط ما يجعل من سمات عصرنا الرئيسية هو مرض الاكتئاب، لأنه مرض يرتبط بكثرة الخيارات، فالإنسان القديم كان لخياراته سقف محدود جداً، إضافةً لكونه لا يرى الخيارات الأخرى -المحدودة أيضاً- المتاحة لأشخاص مثله كجيرانه، أما إنساننا الحالي، إنسان الانستقرام واللينكدان، فهو يرى كل شيء في نوع من الإتاحية والإباحية الناعمة، مما يجعله عرضةً للشلل نتيجة القصف العنيف بوابل الخيارات المحيطة به هذا.

يقول أندرو هوبرمان Andrew D. Huberman، أحد علماء الأعصاب في جامعة ستانفورد وصاحب البودكاست الشهير على يوتيوب، أن مشكلة الإدمان على أي شيء تكمن في «تضييق مفهوم أسباب السعادة» لدى الإنسان. بمعنى أن المفترض للدماغ أن يتحصل على الدوبامين وسائر هرمونات اللذة الأخرى من خلال مصادر مختلفة متفاوتة في الشدة. أما عندما يقتحم الإدمان حياة الإنسان، فإنه يقوم بتضييق ضخم وربما إلغاء كامل لكافة مسارات الدوبامين المتنوّعة تلك، ويحصرها في مسار واحد شديد الحساسية. وهو مراهنة حساسة جداً كأن يضع الإنسان جميع البيض في سلة واحدة.

تكمن الخطورة عندما يكون هذا المسار الوحيد الإدماني غير طبيعي وضار. حينها يمكن القول أن الجسم والعقل والفكر بكامله قد أُخِذَ رهينةً من قبل دوبامين رديء محصور في خط واحد لا قرين لهُ.

وهذا كله يُعزز ويُبنى من خلال فيض متراكم وبطيء من رشقات ونُدف صغيرة إباحيّة وإتاحيّة ناعمة تُلقى في كل مكان تعبر فيه، وفي كل منصة تواصل اجتماعي تتصفحها، وفي كل صفحة رئيسية تقلب منشوراتها وتغريداتها، فالفيض المتراكم من المتاح -حتى لو كان المتاح شيء علمي حتى- يجعل الإنسان عاجزاً أمام سطوة الخيارات الكبيرة التي تعرض نفسها، التي كتحصيل حاصل تفقده التركيز وتفقده على المدى الطويل اللذة الطبيعية التي ينبغي أن يحصل عليها.

ممن تحدث عن هذه الفكرة الصحفي الفرنسي برونو باتينو في كتابه الجميل جداً «حضارة السمكة الحمراء La Civilisation du Poisson Rouge» حيث قال أن إنسان العصر الحديث هو سمكة حمراء من تلك التي توضع في إناء السمك الصغير، تدور حول نفسها بدون توقف، وحيدة، تكرر أفعالاً لا معنى لها. تملك انتباه قصير وتركيز أقصر، تلك هي السمكة الحمراء التي شاءَ لها القدر أن تعيش حياةً كهذه. سمكة الزينة التي أصبح ينافسها الإنسان الآن!

فهو وحيد، يمارس أفعالاً تكراريةً لا معنى لها، غريباً عنها وغريبةً عنهُ. نشاطات إدمانية متراكمة تجعل منه ضفدعاً يسلق نفسهُ ويخدعهُ تدرّج الحرارة تحت مفهوم التكيف، في إطار عام من عدم معرفة الهدف والقصديّة من وراء الفعل. مما يجعلها فريسةً سهلة لأمراض النفس المضطربة، والقائمة تطول ها هنا.

لو هناك فكرة مهمة أريد الإشارة لها هنا فهي أهمية الاهتمام بالمدخلات، الاهتمام بالمقدمات، الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة الناعمة التي تفتح ذرائعاً لأبواب كبيرة. فعلى الرغم من أننا نعيش في عصر كل شيء متاح وخصوصاً المعرفة، إلا أن من يُخضعون المعرفة النظرية لقيديّة التطبيق الفعلي، قلائل جداً، فهناك بون شاسع ومدى واسع بين أن تكون عارفاً نظرياً، وأن تخضع تلك المعرفة النظرية لتطبيق عملي مُقنن.

«تأمّل أي دورة تدريبية على يوتيوب وستجد أنه في أول فيديو منها المشاهدات مليون، ثم في الحلقة الثانية 500 ألف، وفي الثالثة 300 ألف، والرابعة 100 ألف، وهكذا حتى تجد في النهاية بضعة عشرات ومئات ربما! لماذا؟ لأننا في عصر كل شيء متاح فيه، لكن المهم ليس أن تبدأ، لأن الفرصة الآن سانحة لأن تبدأ بأي شيء. المهم أن تملك ما يكفي من التركيز للاستمرار حتى النهاية. وفي عالم الإباحية والإتاحية الذي تسيطر عليه عقلية الأسماك الحمراء، بات التركيز سلعةً نفيسةً جداً».

من السهل جداً أن تدرك مدى إتاحيّة العالم وتوفريّتهُ.. أن تدرك مدى انتشار الضفادع التي تسلق نفسها فيه.. أن تستشعر غزارة الأسماك الحمراء قصيرة الانتباه ضمنهُ.. لكن إدراك ذلك، لا يعني بالضرورة تجنب هذا المصير. بل ينبغي تحسس حرارة القِدر الذي يغلي تحت ذلك الضفدع، وأن التراكم البطيء لا يُمعني الفعل أو يجعله صحيحاً.. وفي كشف هذه الحلقة الصغيرة جداً، يتمايز الناس ويختلفون.. فمنهم مَن يكون سمكة حمراء قصيرة الانتباه تكرر دوراتها وحيدةً في إناء صغير، ومنهم مَن يكون نسراً يُحلّق في السماء شامخاً ببصيرةٍ لا يشق لهُ ولها غبار.