نادين عبد الحميد
نادين عبد الحميد

د

قصة قصيرة: مرآة لا تعكس ما يراه العالم!

ها أنا ذا أطلقوا عليَ ما شئتم من أسماء، قد أكون فاطمة أو جمانة، لا يهم حقيقة من أكون فأنا كائن قد يكون غير مرئي لبقية من هم في هذا العالم، أو هكذا كنت أظن لمدة أطول من أن تكون حلمًا عابرًا أو أضغاث أحلام، أفكر الآن تُرى هل إذا سألت النهر عما يجول بخاطري هل سيجيب؟ أكثر الظن أن الإجابات التي أرجوها لن تأتي من مكان آخر غير عقلي المثقل بفكر لا يهدأ، لذا أجلس في هذا المكان أمام مجرى النهر، أتامل عبوره الهادئ في مكان ليس ببعيد عن الدار التي تمثل موطن نشأتي حيث قضيت القسم الأكبر من طفولتي، بينما يصادف اليوم الذكرى العاشرة لوفاة إحداهن، التي لم يكترث العالم كثيرًا بوفاتها ولكن بالنسبة لي فهي حجر الأساس والنور الذي أنقذني من الظلمة الهالكة التي كادت تودي بحياتي، الآن فقط أدركت كيف حملتني السنوات من حيث كنت إلى حيث أكون الآن، والفضل كل الفضل يرجع إليها والآن أتمنى أن تشملها رحمة السموات أينما تكون.

أتذكر حياتي قبل أن أفقد والديَ في تلك الحادثة المشئومة، حادث نجوت منه بمفردي لأواجه عالم جديد لا أعرف عنه شيئًا، لم تكن الحياة تجري على نحو مثالي، فالجو المشحون بالغضب والألم كان هو السمة المميزة للسنوات الأولى من حياتي، ابنة لم تحظى بكثير من الاهتمام بين عدة أبناء يترقبون الغد في خوف وقلق مما قد يحمله من مزيد من الفقر والعوز، لم أنل الكثير من الحب والدلال كأي طفلة صغيرة ولكن الحياة أبت ألا تمر أيامي الأولى إلا بعد أن أعرف كيف تكون القسوة والاحتياج وكيف تمر الأيام على قلب لا يعرف معنى الشعور بالأمان.

ولكن رغم كل تلك الظروف لم أتمنى أن أفقد عائلتي، عندما أتذكر تلك الأيام أشعر بالشفقة على نفسي وكأنني أواجه الطفلة التي مازالت بداخلي حتى عندما أصبحت أنتمي إلى عالم الكبار، طفلة مازالت تخشى أن تستيقظ آلامها القديمة من جديد، بعد وفاة الأهل لم ينتظرني أي مصير آخر سوى أن يتم إيداعي في إحدى دور الرعاية مع من هم في مثل سني وظروفي الاجتماعية، طفلة مثل كثير من الأطفال، أتذكر يومي الأول عن ظهر قلب وكأنه نُحت في ذاكرتي، أنظر إلى الجميع نظرات مترقبة تخشى مما هو قادم، وقلب يكاد يقفز من داخلي لشدة الخوف، أخشى نظرات الكبار وألمح نظرات شفقة في آخرين، وأستكشف عالمي الجديد حيث أكون طفلة من بين كثير مرة أخرى ولكن هذه المرة لا أستطيع أن أميز وجه أحد.

مرت الأيام ثقيلة باللون الرمادي المائل إلى السواد، أشارك الآخريات في العمل على واجباتنا بعض من الوقت بينما الوقت الآخر أقضيه في سرير من بين عدة أسرة في غرفة واسعة لا يضيئها شيء سوى ضوء خافت قادر فقط على إثارة الأفكار بداخلي، يغفو الجميع في نومهم بينما أحدق بعيدًا متمسكة بالخيال لأهرب به من الواقع الأليم الذي لا حيلة لدي لأغيره أو أهرب منه، مرت الأيام متشابهة حتى كدت أظن أن الحياة ستأخذ لونًا واحدًا إلى الأبد أو حتى لم أكن لأعرف أن شيئًا جيدًا على وشك الحدوث، لم تعرف حياتي معنًا للانتصار إلا بعد مرور وقت طويل فعل بي ما لا يمكن لشدة الانتصار أن تمحيه.في ذلك اليوم لاحظت لأول مرة أن شروق الشمس رائعًا وأن أشعتها الدافئة ترعاني بكل حب، عندما تسرب الدفء أخيرًا إلى قلبي للمرة الأولى، كان اليوم الأول لامرأة شابة تطوعت حديثًا لرعاية من هم بالدار، ولحسن حظي كنت أنا من بين من ستقوم بالإشراف على رعايتهم والاهتمام بهم، رأيتها للمرة الأولى وشعرت أن نسمات الهواء الباردة تلفح صفحة وجهي في حنان ورقة، ولكن لم يبدو أي من هذا على ملامحي أو أدائي، فقد طبعت الأيام القاسية شيئًا منها على طبعي حتى سيطرت اللامبالاة على كل انفعالاتي ورغم ذلك لم أعرف أن تلك المرأة ستكون القشة التي سأمتن إليها طوال العمر.

مرت الأيام يومًا تلو الآخر، تهتم بي وبمن معي من فتيات آخريات كل على حدة، نجلس سويًا فتشرح لي من العلوم المختلفة أو تقص عليّ قصة أو تقرأ من كتب، كانت الطفلة الصغيرة بداخلي ممتنة لوجود من يكترث بها ويعاملها كإنسان مرئي للمرة الأولى في الحياة، أصبح لوجودي كيان معتمًا لا يمر من خلاله الضوء بعد أن كان شفافًا، سيطرت تلك الأفكارعلى عقلي دون أن يظهر أي منها على هيئتي، كانت كثيرًا ما تطرح عليّ أسئلة عني وعما أفكر فيه بعد أن تنتهي من قراءة أي كتاب، ولكن كنت أكتفي فقط بالإيماء، أخشى أن تزعجها أي من إجاباتي فتنصرف عني لغيري، أو تغضب من قلة فهمي وعدم استيعابي لبعض الأمور.

ذات يوم بينما كنا نجلس في حديقة الدار وبعد أن انتهت من قراءة إحدى القصص، طرحت عليّ أسئلة عن نفسي وعما إذا كنت أتذكر شي من حياتي السابقة قبل قدومي إلى الدار، لم يظهر على وجهها الرضا عندما كنت أخبرها أنني لا أعرف من أكون، أنني لا أظن إلا أني واحدة من تلك الفتيات بالدار، أعاني مثلهن وأحمل الثقل الكبير في قلبي يوم بعد يوم، أتمنى لو كانت حياتي مثل حياة تلك الفتيات التي يُذكر الكثير عنهن في القصص التي ترويها عليّ، والتي تمحو الغطاء عن عقلي الذي ظن كثيرًا أن العالم بداخل الدار ما هو إلا نموذج صغير للعالم خارجه، ولكن لم تكن تلك الحكايات إلا كشعاع ضوء ينير عقلي ويمحي عنه جهله بكثير من الأمور التي اعتبرها من المسلمات التي تحدث للجميع، ألست أنا واحدة مثل الجميع؟ ومن أكون أنا لأختلف عنهن وأحظى بمصير آخر؟ هكذا كنت أجيب عندما تسألني عن نفسي، لمحتُ في عينيها شيء من العطف والحنان، تلك النظرة التي لم أعتاد على رؤيتها في عين أحد أبدًا حتى كدت أنساها، أخرجت من حقيبتها الجلدية مرآة صغيرة وطلبت مني أن أمسكها بين يدي وأخبرها ماذا أرى، لم أرى شيئًا سوى فتاة لم تحظى بكثير في هذه الحياة، لم أكن أشعر بالرضا ولا حتى الغضب، فقط أظن أنني أقل من أن أستحق أي شيء، قلبي يملؤه الحزن مما يعانيه من خوف واضطهاد على الدوام، وعقلي لا يهدأ يسيطر عليه التفكير فيما هو قادم، وضعت يدها على كتفي وقالت “أتعرفين، هذه المرآة لا تمثل أي شيء على الإطلاق، فإذا نظر أي منا إليها سيرى صور مختلفة عما سيرى غيره، وأن هذه الصور قابلة للتغيير دومًا، هل تعلمين أنك تحملين مرآة مثلها بداخلك؟” نظرت إليها في دهشة طفلة لم تستوعب أن يكون بداخلها مرآة عاكسة وأجبت بالنفي فأكملت حديثها، “لا أقصد أن يكون بداخلكِ مرآة مثل هذه وإنما ما يمثلها، فكل منا بداخله مرآة تعكس ما يريد، إذا أنتِ أردتِ أن تكوني شخصًا يستحق الحياة وجدير بها فستكونين كما ترين، وإذا أردتِ أن تغيري مصيرك لتغيري قدركِ فستفعلين ذلك، لا يملك أحد أبدًا أن يحدد من تكونين أو يحكم على ما ترين من نفسك في تلك المرآة إلا إذا أنتِ أردتِ أن يتحكم العالم في مرآتك”.

ربما لم أدرك المعنى البعيد لهذه الكلمات في نفس اللحظة لصغر سني عندما سمعتها للمرة الأولى ولكنه حُفر بداخلي مثل كثير من الكلمات، وظل يتردد صداه حتى غطى على ما يعاديه من أصوات، لم تنتهي الحرب الداخلية فورًا وفي الحال ولكن تدافعت الأصوات واختلطت حتى كدت أن أفقد بوصلتي إلى الأبد فأغرق في هوة لا قرار لها، ظلت تلك المرأة تهتم لأمري حتى أصبحت منارة في طريقي، تعلمني من اكون وتدفع عني أفكاري السيئة وتمحي ما تراكم داخلي عبر سنوات إقامتي في الدار، أستطيع بكل يقين أن أقسم حياتي إلى نصفين يفصل بينهما دخولها إلى حياتي، نصف مظلم مؤلم بينما يحمل النصف الآخر كل الألوان، أظن أنني لم لأكن أكتشف شيئًا عن الحياة الحقيقية وعن قدرتي أو أن أكون على ما أنا عليه الآن لولا تلك النقطة الفارقة التي تسببت في استقامة مسار حياتي ومنعه من الانحراف نحو وجهة مجهولة.

اليوم وبعد مرور عدة سنوات على وفاة تلك الإنسانة ورحيل روحها الطاهرة عن العالم، لا أملك إلا أن أشعر بالامتنان نحو الظروف السيئة التي قادتني لتتقاطع خطوط أقدارنا وألتقي بها، أن أمتن لرعايتها لي ولكلماتها الدافئة وعلمها الواعي الذي أنار عقلي بعد غرقه في الظلمات، تُرى ماذا سيكون مصيري أو مصير بقية الفتيات اللاتي لم يحظين بشيء من الرعاية أو الاهتمام ممن حولهن وتم ممارسة كافة أشكال العنف والاضطهاد عليهن من قبل الأهل أو من المسئولين عن رعايتهن؟ عشت أيامًا طويلة أظن أنني لست إلا شيئًا تافهًا لا يقدر على فعل أي شيء، أنني مهما فعلت لن أكون إلا الشخص المقدر لي أن أكونه وأنني لن أستطيع تغيير ذلك ما دمت لا أملك أن أختار لنفسي شيئًا، أنني سأظل دائمًا مفعولًا به في هذه الحياة، حتى عرفت أن كل تلك الأشياء لم تكن إلا خرافات تم زرعها بداخل عقلي عن جهل وقسوة وإهمال، أن الحقيقة شيء مختلف تمامًا عما آمنت به لسنوات طوال، سنوات فارقة لم أعرف فيهن معنى أن يكون الإنسان إنسانًا له ما له وعليه ما عليه.

الآن لا أعرف كيف يجب أن أعبر عن شكري وامتناني لذلك النور وتلك الهداية التي عرفت طريقها إليّ مؤخرًا، ولكن أظن أن تلك المشاعر يجب أن تترجم إلى فعل حقيقي ينقذ آخريات من نفس المصير الذي كنت أسير نحوه بخطى ثابتة نحو الظلام القاتم، تمنيت في هذه اللحظة لو أن النهر يستمع إلى كل ما يدور بداخلي من كلمات، لو أنه ينقل ما عرفت إلى العالم ولكل من سيتواجد في هذه البقعة من الأرض، أن يحمل رسالتي إلى كل من تمر على هذا النهر في طريقها إلى الدار التي نشأتُ بها مدفوعة نحو مصير لا تعرف عنه شيئًا وأن أعود إلى تلك الدار مرة أخرى لا كصفحة بيضاء يُكتب عليها ما يشاء الجميع كتابته بحبر أسود لا يُمحى ولكن كعقل يدرك ماهية الحياة من حوله ويعرف كيف ينقذني وينقذ آخريات من بعدي بالعلم والوعي والمعرفة، وأن أكمل رسالة من توفاها الله كمحاولة مني لتقديم الشكر الذي لن يكفي أبدًا ليوفي ما فعلته من أجلي.