ملاك العامري
ملاك العامري

د

الطريق إلى مكة.. محمد الغربي عمران

قلبت صفحات الكتاب الأخيرة ببطء خوفًا من انتهي منه وساورني الشعور بالقلق من نهاية القصة فقد عايشت كل أحداثه بواقعية وانسجام..

ابتدأت قصة جوذر حينما أرسلته أمه يعمل لدى المعلم وهو طفل صغير ويقول: “هززت رأسي مرتبكًا وبرودة الصبح تلفح وجهي، أِشعر بوجود خوف يرتجف في صدري.. إحساس بالعجز من المجهول، كانت تهمس وهي تدعك يدها بيدي: أنت تحفظ علامات الطريق أليس كذلك؟ تذكرني بتفاصيل الأم إلى حانوت ذلك الشيخ مشجعة إياي أن اذهب قالت في أّذني: تذكر دومًا يأتي إلى جوارك لم تعد صغيرًا أنت اليوم رجل والشيخ في حانوته ينتظرك”
من هنا ابتدأت قصة حياة جوذر بعد عمله مع المعلم وعمل في نسخ الكتب بالمخطوطات العربية، أتقن نسخ الآيات والكتب، لم يكن مسلمًا كمعلمه ولم يكن يهوديًا كأمه، كان يعمل بصمت وتأمل وتأخذه الحيره تجاه فكرة الرب، فيقول: “لم أدر أين يسكن ذلك الرب أفي تلك المساجد ومصليها أم في كنس أبناء ملة أمي أم انه يقبع في بيت الوهيم في لفائف التوراة أم هو في صفحات القرآن؟ من سيسكن رضا الله؟ ملكوت اليهود في السماء، أم في جنة مالا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”..

كانت كلمات جوذر الذي يعيش في حيرة لم يرشده احد الى دين او حقيقة مطلقة، ابدًا فقد تزوج والده المسلم من ابنة عمه اليهودية بحب دون النظر للدين ولكن احدث ذلك نزاع عائلي، اتفق والديه على عدم توجيهه وعليه الاختيار حينما يكبر..

حينما مات الأب التزمت الأم بشروط ذلك الاتفاق بدافع الحب والألم على زوجها الراحل، وهي تقول لابنها: “لم أكن اعرف انني لن اشاهده بعد تلك اللحظات لاتزال رائحته تسكنني، خرج تحت وطأة برد الشتاء، ليحل صمت لم يفارقني حتى اليوم”..

لكن حينما كبر جوذر لم يستطع تحديد وجهته وهذا مايجسد الأسئلة الفلسفية العميقة التي كان يتسائلها شخص يشعر أن الله في داخله وبقلبه ليس في القتل ولا في الصراعات، وهذا ما أراد إيصاله الكاتب الحالة الاجتماعية ماعية والدينية في اليمن حيث أنها تسيطر عليها تلك النزاعات والجماعات الدينية التي تقتل وتعتقل باسم الله.

يأخذك الكتاب في رحلة عميقة ومتنوعة ستشعر أنك كنت تعيش تلك الحقبة، كان يريد أن يصور لنا حالة اليمن قبل سيطرة الجماعات الدينية عليها ممتلئة بالثقافة والحضارة لقد شاهدت ذلك بقلبي وكأنني سافرت عبر الزمن من خلال رواية تشعرك بحقيقة الأحداث، بعد ذلك قُتل معلم جوذر المسلم باسم الدين من جماعة أخرى ومن ثم اعتقل جوذر بتهمة نسخ كتب ممنوعة في سجن يسمى (النقرة).

شعرت بذلك الخوف الذي تجسد من خلال الكلمات بالظلام والألم والوحدة والفراغ الذي يرتطم بداخلك حينما تحاول الكلام لا شيء سوا صدى جوفك الفارغ، قد نسيت ملامحك تحتاج خارطة ترشدك إليك، ما حدث في النقرة يُغيّب الوعي يجعل الأشخاص يتسألون هل الحياة حقيقة هل الماضِ حقيقة هل هناك مستقبل؟ أم أنك مجرد شخص عالق تحمل على عاتقك مصيرك المجهول؟ أم أن كل شيء ظلام ليس إلا.

“مات الوقت وسط ظلمة لا تشبه أي ظلمة لا أعرف كيف؟ أو أنني كنت واهمًا بوجوده أنا على يقين أنها ينبوع الظلمات، اجثم بجراح جسمي وتكسر روحي” مرحلة اللاشعور إطلاقًا، لا يوجد سوا اليقين بالعتمة التي لا يشوبها شيء، “تيقنت أنني قد رحلت عن الحياة وأنني في مجنة الموتى وكل ما أشعر به هو الموت”، “يبدو أن وقت المقابر دون ملامح”.

كل تلك العبارات كان تُثير الألم وتحفز التبلد في آنٍ واحد في أبلغ معانيه.
وبطريقة معجزة غير متوقعه بعد أن يعتقد الإنسان أنه قد وقع في شباك الموت وسقط في الهاوية الأخيرة لا بقعة ضوء لا بصيص أمل لا يد تلوح لها من بعيد تنقذك، بعد أعمق نقطة يأس استطاع جوذر الخروج لكن لم يعلم كم الوقت الذي مكثه في الظلمة ضاع الزمن والذاكرة، عاد لم يجد والدته ولم يجد ابنة المعلم (شوذب) التي أحبها ذهب في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى مكة ليبحث عنهم بعد تقصٍ طويل، وهناك أيضًا ذهب للبحث عن الرب ليجد جواب لحيرته، والنضال ضد كل ماهو غير إنساني.

كانت رواية بطعم الموت والخوف والحب والصراخ، مليئة بالتساؤلات الفلسفية وحقيقة النفس البشريه، وعن بلد تشم عبق الريحان والبُنّ في ارجائها وتشاهد مبانيها المزخرفة، كيف للإنسان أن يستطيع القضاء على جمال كهذا باسم الدين والقبيلة والتعصب لأشياء لا تنافي مذهب الإنسانية إنما الإنسان اعتقد ذلك على مر العصور!

بغض النظر عن بعض الانتقادات حول هذه الرواية إلا أن لها لغة ساحرة وقصة مسترسلة وحبكتها الأدبية مدهشة جدًا تحس أنك تعيش بين أبطالها وترى مشاهدها عن قرب لن تشعر بالوقت إلا حين الإنتهاء منها.
وهنا بعض الاقتباسات:

إن الحرف يختزل كل شيء.

  • الكمال مستحيل وأن النقص هو الاكتمال
  • هذا ما سأوطن نفسي عليه من اليوم أن يكون بداخلي صندوق دون باب قد يكتشف الفرد نفسه تجاه أسرار لم يكن يعدها اسرار.
  • أعيش ما لا تعيشه النساء من شقاء المعرفة أغبطهن على نعيم الجهل.
  • الحقيقة لا تموت لمجرد عدم معرفتنا بها
  • لا أحب تلك النهايات الدامعة، ولست في لهفة للبحث عما يبكيني
  • هل يعيد لنا الحزن والدموع من افتقدناهم
  • كلهم يتشابهون إلا أنت لايشبهك أحد؛ ولهذا أخاف عليك أخاف حين تنظر إلى محتويات عقولهم أن تصطدم بها، كلهم يعيشون بقناعات أمليت عليهم وما بداخلك لا يخص أحدًا
  • لم يكن يعلم أن ذلك السور لا يعنيني فداخلي أسوار، ولا تعنيني انتصارات مولانا، فداخلي هزائم.