فادي عمروش
فادي عمروش

د

وداعاً للقوانين

يُداعب مصطلح القيادة ذهن أي مدير أو صاحبَ مشروع يَطمح إلى الانتقال بمشروعه ومؤسّسته إلى أعلى سلم النجاح، لترتبط جودة المُخرجات بحُسنِ الإدارة ورشاقتها، وترتفع قيمتها بتحوّلِ المدير من مجرد مسؤولٍ في الهرم الوظيفيّ إلى قائدٍ مُلهَم؛ يحفّزُ فريقه لتحقيق أفضل ما لديهم، ونحن إذ وضعنا جانبًا الكتب الأكثر مبيعًا التي لا يحتوي أغلبها إلا على مفاهيمَ نظرية وتحفيز منمّق بين السطور؛ التفتنا إلى الكتب العمليّة التي تسرد نجاحاتٍ واقعية حققها كتّابها بأنفسهم، واخترنا لَكم من بينها كتاب “وداعاً للقوانين” No Rules Rules لتلخيص قِصة نجاح إحدى كُبرى الشركات، عسى أن نستخلص العِبر المستفادة من رحلة صُعودها.

تَشاركت الكاتبة إيرين مايير وريد هاسينجرمؤسس نتفلكس ومديرها التنفّيذي-  في تأليف كتاب “وداعاَ للقوانين” لتسلّط الضوء على أساليب جديدة في تسيير الأعمال، ويسرد الكاتبان مع تتالي سطور الكتاب معجزةَ نجاح شركة نتفلكس، وقِصة صعودها من مجرّد شركة تقدّم خدمة طلبات الأقراص المُدمجة عبر الإيميل إلى شركةٍ رائدة في مجال الترفيه والبثّ المباشر، لتضعها استراتيجية القيادة التي اتبعتها في مضمار المنافسة الكبرى، وإلى جانب عمالقة السوق من أمثال ديزني وغيرها، بمشتركين قاربوا 200 مليون، وقيمة سوقية تجاوزت 200 مليار دولار في نهاية 2020.

ترى الكاتبة أنَّ القيادة الصحيحة تبدأُ برفض كل ما هو متبع من ممارسات قديمة داخل المؤسسات، على النقيض من نموذج القيادة في نتفلكس الذي يتسم بمواكبة الطبيعة المتسارعة للعالم الذي نعيش فيه، العالم القائم على التمكين، ومنح الثقة، مع ضرورة التخلّي عن الروتين الرتيب المتبّع من سياسات هرمية وقوانين جوفاء في بعض المؤسسات، وتخفيف ضغط العمل على الموظّف، وتعويض النفقاتِ المترتبة من عمله لصالح الشركة بغية تأمين حياة مهنية لطيفة، تحفزّه على المزيد من الإبداع.

بيئة العمل

ترى الكاتبة أنّ بيئة العمل الجيدة تستلزم جوّ من الجدية والتنافس بين أعضاء الفريق، يرافقه تعاون وتغلّيب لنجاح الشركة على النجاحات الفردية. يضمن الجو التنافسيّ اجتذاب خيرة المهارات والكفاءات، وصقل الفريق بتضمين أفضل الخبرات، كما يُخرِج من الموظفين أفضل ما لديهم طمعاً بالترقيات، والحوافز المادية والمعنوية، واعتلاء السلم الوظيفي داخل الشركة، ممّا يحقق نجاحاً وجودة في مُخرجات العملية الإنتاجية، وزيادة كمية واضحة تعبّر عن رغبة كل عضو من أعضاء الفريق في التفوّق على من حوله، وتقديم أفضل ما لديه.

فحاول ما استطعت تطوير الموظفين ومساعدتهم على تجاوز العوائق والثغرات في داخلهم، أو على الأقل التخلي عنهم بعد أن تيأس من محاولات الإصلاح، خشية أن يؤثروا على الجوّ العام في الشركة.

أعتقد أيضاً –لو خرجنا عن رأي الكاتبة-في أن جو التنافس قد يرافقه بعض الأنانية، فينكفئ كل شخص على ذاته داخل الفريق، وقد يصل الأمر إلى حد منع المعلومات عن بعضهم البعض بقصد الحفاظ على تميزهم، لذلك حاول من موقعك التخفيف من روح الأنا، وخلق جو تعاونيّ تنافسيّ، لا تنافسيّ تنافسيّ فقط.

التقييمات وحرية التعبير

يرى الكتاب أن المدير الناجح يتسّم بالانفتاح وتقبل النقد، ويمنح العاملين معه حرية إبداء الرأي، وخوض النقاشات، وتقييم سير العملية الإنتاجية، ليخلق جوّاً من الثقة والألفة، ما ينعكس إيجابيًا على الأداء العام داخل الشركة، والسعي لإيجاد بيئة تعلم دائمة، من خلال متابعة موظفيك، وتوجيه التقييمات والملاحظات بصورة مستمرة، ما يُمكّنهم من معرفة أخطائهم، والتعلم منها وتحقيق نتائج أفضل، ونشر ثقافة قبول النصيحة بتقبل تقييمات موظفيك، وسماع آرائهم ممّا يبعث الراحة والطمأنينة في نفوسهم، ويقوي انتماءهم للشركة.

ويؤكد الكتاب على ضرورة ضبط النفس أمام أي نقد، وقبول الآخرين حتى لو كانوا في مراتب وظيفية أقلّ منك، والتقليل من النقد أمام الآخرين لفعله السلبي الذي يؤدّي في كثير من الأحيان، لتراشق التُهم والتجريح المتبادل.

الإجازات

ترى الكاتبة أن سياسة الإجازات المفتوحة وسيلة ناجحة في جذب الكفاءات، وتقليل الممارسات الروتينية المملّة، كما أنها تخفّض من الأعباء الإداريّة الخاصة بإعداد سجلّ الإجازات. والأهم من ذلك كله، تمنح الموظفين الحرية والثقة بقراراتهم، ما يزيد من شعورهم بالمسؤولية اتجاه شركتهم.

تساعد هذه الاستراتيجية على تحسين حالة الموظف الذهنية والجسدية، ما ينعكس على تحسّن قدرته على الإبداع، والتعامل مع مسؤولياته بطريقة غير تقليدية في العمل في جوّ من التوازن يخلقه هو، بحسب ما يراه مناسباً. فلم يعد يشغل باله بالإجازات وبعدد أيامها حتى ينظم شؤون حياته ويفكّر فيها.

تنصح الكاتبة أيضاً كل مدير بأن يجعل مصلحة الشركة هي المعيار الرئيس لأي فعل، فبثّ هذه الفكرة بين الموظفين يساعدهم على اتخاذ قرارات ذكية، ويُشعرهم بالمسؤولية، ويُعطيهم حرية أكبرَ في التصرف، بدلاً من الرجوع إلى الإدارة في كل الأمور.

وتشير الكاتبة إلى أهمية مراقبة سلوك الموظفين للثقة الممنوحة، فلا تكن ساذجاً وتتوقع حسن استخدام جميع موظفيك للثقة التي ستمنحها لهم، فلا بُدَّ أن بعضاً منهم سيستغلونها، ويسيئون استخدامها، وطبعاً لا تتراجع عن سلوك الإجازات المفتوحة عند أول موظف، بل تحلَّ بالحكمة، وتعامل مع المسألة بحكمة، واكتفِ بمعالجة مواضع الخلل دون التعديل على كامل النهج؛ لأن الربح يفوق الخسارة، ما يًقلّل من قيمة المشاكل الحالية أمام الصيغة المشتركة من النجاح التي تسعى إلى إرسائها في شركتك.

الكفاءات والتقدير

لا تضيّع الوقت في توظيف الأشخاص العاديين، واستثمار أصحاب الخبرات القليلة؛ بل اسعَ دوماً إلى توظيف أصحاب الكفاءات فقط، إن كنت تطمح إلى النجاح وتحقيق أفضل النتائج. وأياً كان نوع المهمة روتينية أم إبداعية، استعن بالأفضل، فمعه ستلمس الفرق.

تنقل الكاتبة تجربة نتفلكس التي تسعى في مقابلات التوظيف –لدى إعجابها بكفاءة أحد المتقدمين-إلى عرض راتب أعلى من المعدّل الموجود في السوق، بقصد اجتذاب أصحاب المواهب والكفاءات، وضمّهم إلى فريق العمل، في حين أنها تنصح المديرين بالابتعاد عن الصيغة التقليدية من نظام الحوافز والمكافآت، وتطبيق نظام حوافز سخيّ، يكافئ الموظف لقاء أفكاره وجهوده التي تحقق قيمة حقيقة للشركة، وتؤكد على ضرورة إعطاء الموظف مساحة من الحرية يجول خلالها بفكره الإبداعي.

الشفافيةّ

يتّصف المدير الناجح بالشفافية والسعي لتطبيقها، فتنصح الكاتبة كل مدير أن يعمل بشكل جاد لخرط الموظفين في سير العملية الإنتاجية، ووضعهم في الصورة العامّة حتى يفهموا مَقصد الأعمال التي يقدمونها للشركة، ومدى فائدتها على جودة المُخرجات، ولا ترى الكاتبة مشكلة إذا اطّلع الموظف على معلومات سرية قيّمة لا يطلع عليها إلّا الموظفون من أقسام ومراتب وظيفية أعلى، بل ترى أثراً إيجابياً لهذا الفعل في نفوس الموظفين، يتمثّل في حثّهم على تحقيق المزيد والمزيد لصالح المؤسسة،  لتنامي شعور المسؤولية وتعزيز قيمة عملهم داخل نفوسهم.

يرشد الكتاب قرّاءه إلى التواضع، وإظهار مواضع الفشل وقبولها، وإعلان أسبابها، كما تظهر مواضع النجاح، وتفتخر بها أمام فريق العمل، وتؤكد في السياق ذاته على ضرورة تحديد المسبّبات لأي فعل مؤثر في الشركة، سواء لفصل موظف أو أي فعل مصيري آخر، يمكن أن يُحدِثَ بلبلة حول صحة قراراتك.

 الحرية في اتخاذ القرارات

غالباً ما يسعى الموظفون إلى اتخاذ قرارات تنال رضا المدير، انطلاقاً من مبدأ أن المدير هو الشخص الملم والعارف، فيما يرفض الكتاب النمط الهرمي في القيادة، ويؤمن أن النجاح والابتكار هو في تنوع الرؤى والأفكار داخل المؤسسة، وخلق جو من الحوار والنقد البنّاء، حيث يكون شعار الشركة “لا يكن همّك إرضاء المدير” فقط أطلعِ المدير على ما تقوم به، وتابع عملك.

تؤكد الكاتبة أنّك عندما تمنح الحرية لموظفيك _شريطة أن يكونوا أكفاء_ فلن تحصدَ إلا الإنجاز والإبداع. فدائمًا احرص على تذكير موظفيك بأن الفشل والنجاح توأمان متلازمان، فلا يحدث أحدهما دون الآخر، فتنزع بذلك من نفوسهم الخوف من الفشل، وتزرع فيهم الثقة والشجاعة. إنّ معارضة المدير أمرٌ صحيّ لنجاح أي مؤسسة. ومن الجميل التعلم من نتفلكس رؤيتها في هذا الشأن، فعدم التعبير عن معارضة فكرة والتزام الصمت، يعدّ شكلاً من أشكال عدم الولاء للشركة، بل هو رغبةٌ ضمنية بإلحاق الأذى بالشركة، فاتخاذ القرار بتحمل مسؤوليات القرار وتبعاته أيًا تكن، هي من منظور نتفلكس مؤشرٌ هامٌ على اتخاذ قرارات أفضل وأكثر نجاحاً.

 أنماط القيادة

تختصر الكاتبة القيادة في نمطين اثنين:

النمط الأول هو “المراقبة” حيث تحتاج جميع المبادرات أو القرارات أو الأعمال التي تصدر عن الموظفين إلى موافقة المدير، ثم يشرف على تنفيذها وإدارة دفتها؛ في حين أن النمط الثاني هو “الإشراف” يلعب المدير فيه دور الموجّه، حيث يزوّد الموظفين بجميع المعلومات اللازمة التي يحتاج إليها فريق العمل في اتخاذ قرارات عظيمة، وفي إنجاز العمل بحرية ودون أي مراقبة عليهم.

وتحدد الكاتبة معيار اختيار النمط المناسب لاتباعه في قيادة المؤسسة في الإجابة على سؤال: “ما الهدف الذي تصبو إليه الشركة: الابتكار أم منع ارتكاب الأخطاء؟” فإن كنت تسعى إلى الابتكار فالنمط الثاني هو الأنسب؛ شريطة أن تدعمه بموظفين أذكياء، تمنحهم قدراً كافياً من الحرية، وتشعرهم بعدم الخوف من ارتكاب الأخطاء، أما لو كانت غايتك تلافي الأخطاء فحسبك نمط المراقبة فهو الخيار الأمثل.

في السياق نفسه، وضماناً لتحقيق أفضل النتائج، وتشجيع الموظفين على اتخاذ قرارات هامة، يجب أن يتفق المدير وموظّفوه على الهدف النهائيّ المرجوّ. فالنتائج تكون أكثر فعالية عند وجود خطة عمل واضحة.

وتدعوك الكاتبة في نهاية كتابها كمدير لتكون متفهماً دوماً لموظفيك؛ فلا تسارع إلى لوم موظف يرتكب خطأً، أو يقوم بعمل غير مناسب، وسارع إلى سؤال نفسك: “ما هي مسؤوليتي فيما حدث؟، وهل نجحت في شرح أهدافي واستراتيجيتي على النحو المطلوب للموظفين؟ ”. فنجاحك في تطبيق نمط التوجيه في القيادة، يتحدّد بمدى قدرة فريقك على الوصول إلى الهدف المرجو في ضوء المعلومات التي زوّدتهم بها لاتّخاذ القرارات بأنفسهم.

ختاماً

لم يعد الهدف المنشود لأكثر الشركات أو الفرق في عصرنا -الذي يزخم بالمعلومات-منعَ حدوث الأخطاء، وإنما تحقيق الابتكار، والسرعة في الإنجاز، والمرونة في التطبيق، بل إنّ هذه الشركات ترى في التغيير شرطاً وعاملًا أساسياً في النجاح والتميّز. فكن موقناً أنّ إلغاء القوانين والسياسات هو الخطوة الأولى في مسيرة تحقيق النجاحات المنشودة، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار توفير الظروف المواتية، وبناء فريق مبدع وسريع ومرن -قبل أخذ هذه الخطوة-حتى لا تعمّ الفوضى.

إنَّ الانسجام والتفاهم هو سر النجاح. فليكن هدفك تحقيق هذا الانسجام بين جميع أطراف شركتك، واحصد الثمرات اليانعة التي ترجوها، وتسعى إلى قطفها.