هدير طارق البدوي
هدير طارق البدوي

د

أيخذلنا الآخرون أم تخذلنا اختياراتنا؟

عادةً ما أتعرض لمضايقات أبي لأن أمي لا تهتم بطعامي كما تهتم بطعام أخوتي، فهي لا تسألني إذا ما تناولت إفطار قبل الخروج من المنزل، ولا تتأكد إن كنت أنهيت طعام الغداء، ولا تضع في حقيبتي العصير والشوكولاتة تحسبًا لاحتياجي لوجبة خفيفة أثناء يومي، والذي قد يطول أحيانًا. ودائمًا ما تخبره أمي إنني لست مصدرًا للقلق كما هم أخوتي، فأنا أجيد الاعتناء بنفسي.

لطالما أخبرتني أمي هذا أيضًا، فأنا أحرص على تناول فطوري قبل القيام بأي نشاط آخر، كما إنني أُسارع لشراء الطعام إذا ما شعرت بقليل من الجوع. أمي محقة، فأنا أجد في الطعام ما يناسب جميع حالاتي النفسية، أتلاهى به عن حُزني، يؤنس وحدتي في فرحي، وأتشاغل به عند الملل. لهذا كان دائمًا وزني زائدًا، ولهذا أيضًا لم أكن أبدًا ممن يصيبهن الإعياء وفقدان الوعي.

كان اليوم هو الأول، بقدر ما تُسعفي ذاكرتي، ألا يكون لدي رغبة في تناول الطعام، لم أشعر بالجوع، لم أتناول قطعة الشوكولاتة مع قهوتي، بل لم أفكر بالطعام حتى وصلت المنزل بعد يوم عمل طويل لأجد رأسي يؤلمني وتتردد كلمات أمي لأخوتي في أذني “صداع جوع”.

تعرضت للخذلان الليلة الماضية ممن هم الأقرب لي، لم تكن اختياراتي ولا سقف توقعاتي كما أخبرونا، لم يكن لي يدًا ولم أساهم في خذلاني هذه المرة. بدأت اليوم مشتتة الفكر بعيون متورمة تملؤها الدموع. ثم مجددًا، الخذلان، كان اختياري هذه المرة، فقد قررت وبكامل إرادتي أن أثق بهم، قررت وبكامل إرادتي أن أنفتح وأترك لهم مساحة التعرّف عليّ، ضحكنا معًا، ثم خُذلت. وفي نهاية اليوم للمرة الثالثة في أربعٍ وعشرين ساعة، كان سقف توقعاتي، سمحت لنفسي أن أحلم وصدقت الحلم، توقعت أكثر مما قد وجدوا في أنفسهم الطاقة ليعطوه، وزعت ابتساماتي وانتظرت ابتساماتهم فلم تقابلني سوى نظرات عيونٍ فارغة.

يُعرّف الخذلان بـ “ترك المرء نُصرة أخيه وعونه”. إذن فإن لم أكن في موقف ضعف أو احتياج فأنا لا أتطلب وجود أحدهم وبالتالي ابتعادهم ليس خذلانًا. ما هو إذن مُسمى شعور الحفرة التي تزداد إتساعًا في صدري، ولم لا استطيع التقاط أنفاسي كما يجب؟

لا أرتضى هذا التعريف، يكفيني تعريفًا للخذلان بأنه الترك. ترك من يتكئون عليك في منتصف الطريق، تركك ظهر أخيك عاريًا وهو الذي ضمن وجودك، ترك صديق بدون تبرير، ترك من ينتظرون مجيئك بلا اعتذار، جميع أشكال الترك هي خذلانًا، كلًا بنوعه الخاص. أعتقد أن أكثر أشكال الخذلان إيلامًا هي الاختفاء، وكأن تركهم ليس كافيًا فنضيف القليل من الملح إلى الجرح ويكون تخلينا بلا مبرر ولا إعتذار، وكآخر نقطتي ليمون لنصل بالألم إلى الذروة، نذهب بلا عودة.

كما يجب عليك لإتمام حبكة الخذلان أن تُجيد اختيار التوقيت، فيكون تخلينا في أكثر الأوقات التي يضمنون فيها وجودنا، نتخلى عنهم وهم أعلى قمة جبل ثقتهم، في الوقت الذي يختارون فيه، وبكامل إرادتهم أن يهدموا جميع حوائط مقاوماتهم ويتركوا قلوبهم تمامًا بلا دفاع.

بعد معرفتنا بما سبق، يظل السؤال الأكثر إلحاحًا بلا إجابة، هل خذلنا الآخرين، أم خذلنا أنفسنا باختياراتنا وتوقعاتنا؟ أظن أن الإجابة التي تتجه إليها قلوبنا هي أن الخذلان هو خطأ الآخر، فنحن لا تشوبنا شائبة، إلا إنني أجد هذه الإجابة تعج بالأنانية، فقد اخترنا تجاهل علامات الخطر وتجاربنا السابقة فقط من أجل بصيص الأمل، ومن يمكنه أن يلومنا، فمن هذا الذي لا يتمنى حياة هادئة حيث يمكنه منح أحدهم الثقة والاعتماد على وجوده، دائمًا.

إذن فهو الاختيار الآخر، خذلنا أنفسنا، خذلتنا اختياراتنا وسقط سقف توقعاتنا مُحدثًا هذا الجرح الغائر في قلوبنا، إلا إنه أيضًا اختيار مؤلم، يعج هو الآخر بسوء الظن والأنانية. أخبرتني صديقتي أن أُحسن الظن، فتسائلت، هل أحسن الظن بهم؟ أخبرتني أن لا، أخبرتني أن أحسن الظن بنفسي، باختياراتي، وبطبيعتي، فأنا لم أفعل خطئًا إن كنت وثقت ببضعة أشخاص أو احتجت لأمان وجودهم، كما لم أرتكب جُرمًا حين تصرفت بطبيعتي في وجودهم، فليس واجبًا عليّ التمثيل والحرص على التحدث بطريقة معينة والضحك بطريقة معينة ليظل الآخرين بحياتي.

أما عن الأنانية فتكمن في إحساسنا المُبالغ بأهميتنا، فإن كل خطأ يحدث هو خطأنا، وكل إنزعاج هو نتيجة لشيءٍ قد تحدثت به، فينتهي بنا الحال متحملين جميع المسئوليات فإن أيًا ما حدث هو عواقب أفعالنا، فنحن مركز الكون ويقضي الجميع أوقاتهم في مراقبة خلجاتنا وأخطائنا.

لأحدثكم بمصداقية، لا تهم كثيرًا إجابة السؤال، فسيظل الجرح مؤلمًا بذات القدر إذا ما تسببنا به لأنفسنا أو كان الآخرين . ما يهم كثيرًا هو ألا نترك الخذلان يمنعنا لذة الشوكولاتة مع القهوة، ولا جلسات الفطور في العمل، أو طعام أمي الساخن والذي يمكنني شم رائحته من الطابق الأرضي لمنزلنا. ما يهم هو ألا يكون خذلانهم سببًا لإضافة فرد آخر في قائمة من تقلق أمي عليهم، إلا إنني لا أظن أنه يمكنها أن تتوقف عن القلق قط، وإن كنت لا أنسى تناول الطعام حتى وأنا في اسوأ حالاتي. ربما بخلاف اليوم.