صلاح القرشي
صلاح القرشي

د

الرواية والتاريخ

في الثامن من يونيو 2020 استهدف محتجون في بلجيكا تمثالًا لملك بلجيكا في القرن التاسع عشر (ليبولد الثاني)، وقد كان هذا الملك مسؤولًا عن إبادة جماعية وانتهاكات فظيعة في جمهورية الكونغو.

ولمن طالع رواية (حلم السلتي) لماريو بارغاس يوسا فإن مشهد سقوط تمثال ليبولد الثاني  سيبدو وكأنه صفحة أخيرة وجديدة من تلك الرواية الرائعة التي تناولت تلك الانتهاكات من خلال سياق روائي محكم يتجاوز الكونغو إلى بيرو وأوروبا أيضًا، ومن هنا يستطيع العمل الأدبي أن يصبح بمثابة وثيقة تاريخية مهمة تدين تلك الحقبة المرعبة من تاريخ البشرية.

في الصفحة 125 من (حلم السلتي) نقرأ:

(بدأت اليوم رحلة العودة بدلًا من مواصلة التقدم في أعالي الكونغو لإسبوعين آخرين ولكن صارت تتوافر لدي في الحقيقة ‏مادة كافية كي أثبت في تقريري الأمور التي تحدث هنا، إنني على حافة الجنون لا يمكن لأي كائن بشري إن يغوص لشهور طويلة في هذا الجحيم دون أن يفقد سلامته دون أن يصاب ‏باختلال ذهني، إنني أعيش في غم دائم وإذا ما واصلت الغوص فيما يحدث هنا سوف أنتهي أنا أيضا الى الضرب بالسياط وتقطيع الأيدي وقتل الكونغوليين ما بين الغداء والعشاء دون أن يسبب لي ذلك‏ أدنى إزعاج ودون أن يفقدني شهيتي).

والمفارقة هنا هي أن الرواية التي تتناول الحدث التاريخي من منظور ذاتي قادرة على أن تتحول إلى وثيقة تاريخية تساهم في إدانة وتوثيق حقبة معينة بل ويمكن لها التأثير بما يتجاوز التاريخ نفسه.

هكذا تحولت رواية (الدكتور زيفاجو) من قصة حب بين يوري ولارا إلى شكل من أشكال الإدانة التاريخية للثورة البلشفية.

ما يحدث في الرواية يشبه تلك السير الشفهية التي يتناقلها المنهزمون والمنكسرون الذين لم يجدوا وقتها من يوثق لهم تاريخ وحقائق وحكايات تجاوزها الشأن الرسمي المنتصر وتجاهل بعضها أو كلها التاريخ.

لعلنا هنا نتذكر رواية (الكرنك)  لنجيب محفوظ، حكاية الشباب الذين يقضون بعضا من وقتهم في مقهى الكرنك، استطاعت تلك الرواية بصدقها الفني وبعدها الإنساني أن تتحول إلى  وثيقة تاريخية تصور فترة حالكة من تاريخ الاستبداد  لن يجد المؤرخ المستقل فيما بعد مشكلة في الاستشهاد أو الاستدلال بها. 

 هنا يمكن القول أن العلاقة تكمن بين الرواية والتاريخ وليست بين الروائي والمؤرخ، فالرواية الناجحة في تقديم التاريخ هي تلك التي لا يتقمص فيها الروائي دور المؤرخ، هي تلك الرواية التي لا تزاحم الكتابة التاريخية بقدر ما تتعامل مع التاريخ كأرض يمكن للكاتب أن يزرعها بالحكايات وبالخيال، هي الرواية المشغولة بالإنسان وهزائمه وما يتعرض له من قبل قوى تكسره أو تحاول كسره.

ما تفعله الفنون والرواية من بينها هو أنها تلغي الحواجز الزمنية والمكانية فتخرج القضايا من تاريخيتها الخاصة إلى فضاء إنساني عام.

هكذا يقربنا ماركيز من بوليفار في (الجنرال في متاهة) نقترب منه كإنسان، نتعاطف معه دون أن يعنينا أمره التاريخي شيئاً ودون أن يهمنا أمر أمريكا اللاتينية ووحدتها كثيرًا.