أميرة مفيد
أميرة مفيد

د

ليس مُجرد رأي!

مُؤخراً واجه العالم تحديات كبرى كانت خير برهان على الدور الحاسم للآراء والمعلومات الموثوقة والمُتحقق منها والمتاحة في إنقاذ الأرواح وبناء مجتمع قوي صلب. وكيف أن غيابها أو تعذّر الوصول إليها أدى إلى تصاعد الإشاعات والأكاذيب والآراء المتطرفة المثيرة للانقسام لتسد الفجوة..

ذلك أن الضغط النفسي وعدم وجود مُتنفس جعل المنصات الإلكترونيّة تنفجر بآراء أكثر مما نستطيع عدهُ أو نقده حول كل شيء.ومن اللافت أنه وسط هذا الغثاء مِن الآراء يبدو كأن أحداً لا يهتم بتنقيح رأيه، فكلهم سيجد فرصة مُتساوية للانتشار فأصبح الإهتمام بفن الرد لا منطقه وبقصف الجبهة فالأهم نشوة الانتصار لا التعلم تحوّلت الآراء لأداة إثبات موقف لا إضفاء قيمة يُحجمك خوفك من المساءلة لا المسئوليةفإن كنت في مأمن من المساءلة القانونية أو الملاحقة الأمنية فاهذِ بما تشاء.. ومهما كنت ضالاً أو مُضلاً لا تخف ولا تخشَ ستتمكن من التملّص كالشعرة من عجين.. فآرائك الخاطئة أياً كانت تبعاتها، تخبو بالجملة السحرية “هذا مُجرد رأي”!

ليس مجرد رأي..

هناك ذلك التعميم الخاطئ؛ باعتبار الآراء تُشير فقط إلى المفضلات والأذواق، وتعتمد كلياً على Gut Feeling متجاهلاً حقيقة أن معظم الآراء تحتاج لقدر كبير من التحقق.. وتعتمد أساساً على الحجج العقلانية Rational Argument كالآراء العلمية والتاريخية والسياسية..

فإذا كان مِن السخف أن أطلب منك حجة عقلانية؛ لمَ تفضل مثلجات المانجو عن الفراولة.. فإنه من الأسخف أن تتعامل مع آراء من النوع الثاني على نفس المحمل فاستخدام عبارة إنهُ مجرد رأي هو حق يُراد به باطل فإما أنك تستخدمها لتختم بها أي هراء خلا من أي دليل، لإنهاء النقاش وتقليل من موقف المعارضين، بأن تعتبرها مسألة من مسائل الذوق ولا نزاع في الذوق.. وإما أن معتقدك يختلف بشدة عن معتقدات الآخرين، فتستنتج أن ما بخلدك ما هو إلا مجرد رأي ليس بأحسن من الآخرين..

ورغم كونه تواضعاً قلما تجده الآن، فهو سيء الأثر.. إذ يجعلك تحجم عن مناصرة قناعاتك خشية أن تكون مجرد آراء!

الآراء ليست سواء..

جادل السُفسطائيون بأن كل الآراء جيدة على حدٍ سواء.. وحجتهم داحضة تماماً في هذا الأمر، فمن الأكيد أن بعض الآراء مدروسة وملمة ومُتماسكة ومبنية على علم وهي قطعاً أهم من آراء أخرى كونها أصحابها في فقاعتهم الخاصة، وهي على أقل تقدير غير ذات قيمة وقد تصل لكونها خاطئة ومضللة.. لذلك السؤال هنا هو: كيف تميز الرأي الجيد؟ وكيف تبني رأيك الخاص؟

مُقدمات صحيحة ومنطق سليم

أولاً عليك أن تدرك قدرة الرأي على الانتشار.. لا تعطيه صلاحية أكبر فسلطة الرأي تأتي من منطقه لا من شهرة ناطقه وذلك المنطق يعتمد على المقدمات؛ إذ أن المقدمات الخاطئة لا تؤدي لنتائج صحيحة وإن صح المنطق وقد تأتي هذه المقدمات الخاطئة إما من معلومات منقوصة أو مغلوطة عمداً أو سهواً.

قد تعتقد أن الواقعين في مشكلة المعلومات الخاطئة هم فئة غير مُتعلمة مثلاً، لكن الأكثر وقوعاً والأخطر هم فئة أطلق عليها «الأميين الجدد» رغم سيطرتهم على جهلهم الأولي بالقراءة والكتابة، إلا أنهم يعيشون في شكل مختلف من تخمة الجهل.

فهذه الفئة لا تقرأ الكتب ولكن تفتتن بتكاثرها كوسيلة للوجاهة الاجتماعية.. وإذا قرأوا يعفون أنفسهم من مشقة العناء كقراء ويهرعون إلى الأعمال الضعيفة بشراهة، يكتفون بما يُلقى إليهم من فتات المعلومات عبر مواقع التواصل الإجتماعي، ويثقون ثقة كاملة في عناوين الصحف ويعتبرونها عنواناً للحقيقة.

يروجون لفكرة مشوهة عن القراءة.. يتغزلون بلذتها التي تعادل الشيكولاتة وهي ربما كذلك فقط في حالة الروايات وفقط البسيطة منها (وهي بديل جيد للتسلية وملء الفراغ). ويتغافلون عن حقيقة أن القراءة هي لأجل فهم أوسع للعالم صعبة ومجهدة ومملة وتحتاج بذل الوقت والصبر.. وأن القراءة في حد ذاتها ليست غاية وإنما فرصة عظيمة للتحرر وتنمية الحس النقدي والتأمّل.

إذ تُحجمك عن الانبهار السريع بأي فكرة، وتدربك على إعطاء الفرصة لعقلك ليعتمد دائماَ على آليات التفكير الفلسفي كالشك والنقد Critical Thinking في فلترة كل ما يدخله؛ مُتسلحاً بالقوّة والشجاعة الفكرية ليتساءل دائماً قبل أن يقبل أي معلومة ما مصدرها وما مدى مصداقيتها..

فالكل لديه القوة لأن يكون واعياً وعلى دراية من خلال الجهد الذكي والصبر.. فالجهل في ظل المتوافر الآن مِن كتب ومقالات ووثائقيات ودورات تدريبية موثوقة عالية الجودة هو محض اختيار.

اقتل تحيزاتك.. خير لا بُد منه!

ربما صادفت قبلاً أشخاصاً لا يمكن التشكيك بأي صورة من الصور في مدى رجاحة عقلها (منطق سليم) ولا سعة ثقافتها (مقدمات صحيحة) أو نزاهتها قبل كل شيء، رغم ذلك تفاجئك بآراء معطوبة لتتركك في حيرة من أمرك ماذا حل بهؤلاء!

إنها التحيزات الفكرية التي ما خالطت رأياً إلا شانته.. تذر في عينك رماداً في كل مرة ترى فيها ما لا تتوقعه أو ما لا تريده! لذلك من غير الدقيق القول بأن مُختلف الناس لديهم مواقف مُختلفة من نفس الشيء ببساطة الشيء ليس هو نفسه بالنسبة لمختلف الناس سواءً كان عن لاعبي كرة القدم… أو مرشحي الشيوعية.. أو حتى السبانخ

فتصوراتنا تتأثر بما نتوقع ونريد رؤيته بما ننتبه إليه ليس ما هو موجود فعلاً، ولا أحد بمفازة من الوقوع في التحيز الأشهر؛ تحيز التأكيد Confirmation Bias حيث ينتقي الناس الأدلة التي توافق مفاهيمهم المسبقة أو توقعاتهم الحالية ويعطون لها وزناً أكبر من تلك الأدلة المضادة التي تعارضها..

وهو التحيز الذي غالباً ما تتعرض له أثناء تصفحك لوسائل التواصل الاجتماعي، إذ أنها لا تُعنى البتة بتثقيفك فخوارزمياتها تهتم ببقائك لمدة أطول فتعرض عليك المنشورات التي تناسب اهتمامك وتوافق نظرتك لتلتقي فقط من يماثلونك في الرأي، لتكوّن ما يشبه من مُجتمع من متماثلي التفكير لا يستطيع رصاص الآراء المضادة اختراق قناعاته فتجعلك غافلاً تماماً عن الجانب الآخر كأنه لم يوجد قط!

وهناك التحيز الآخر Story Bias أو تحيز القصة؛ وهو ما تعتمد عليه وسائل الإعلام بشكل كبير.. فعندما تكون القصة جيدة الحبكة فإن عقلك سيكون أكثر تقبلاً وتذكراً لتفاصيلها، بل وإنه يسقط عمداً الحقائق التي لا تتناسب مع القصة..

لذلك فمن بين مُرتكزات الإقناع التي ذكرها سقراط الأسلوب القصصي Methos. غالباً ما يلقى نجاحاً فائقاً مع العامة مُتغلباً على زميليه العقلانية Logos والمصداقية Ethos. وكثيراً ما يعتمد عليه لتغيير الوعي الجمعي خصوصاً إذا كانت الشريحة المُستهدفة كبيرة.

هذا غيض من فيض التحيزات التي تشوه إدراكك، ولكي تتغلب عليها عليك أن تأخذ تحيزاتك على مَحمل الجد لتعرف ما الذي شكّلها.. من أين أتت.. من تربيتك، إيمانك أم تصوراتك السياسية، ومن أين تتلقى معلوماتك حول العلم والعالم طوّر مصادرك باستمرار وتأكّد من تنوعها وتحيزات مَن يقدمها..

أخيراً..

ليس الغرض أن تحجم عن إبداء رأيك أبداً، ولكن لتعلم أن التدخلات غير المُستنيرة تربك المشهد مهما كانت النية حسنة، لذا في كل مرة تشعر وكأنك مجبراً على اتخاذ موقف فوري نحو المناطق الفكرية الخلافية، تشجّع ومارس قدراً من العدالة الفكرية والقيمة الأخلاقية، لتمكنك من الإعتراف بجهلك بموضوع النقاش.

إن كان هذا هو الحال.. انطلق لتطوّر قدراتك مُتغلباً على معوقاتك؛ سواءً كانت جهلاً معرفياً أو تقاعساً أو ضعفاً في الشخصية، ثم لتحمل مسئولية رأيك في التحقق منه قدر ما استطعت، والإعتراف بالخطأ إذا سقطت فيه، لأن رأيك مهم.. فأعطه الاهتمام الذي يستحقه.