ثناء بن شبل
ثناء بن شبل

د

الليلُ يا ليْلى يُعاتبُني… نوستالجيا الليل!

نوستالجيا تعني الحنين إلى الماضي.. وهو سلوك سيكولوجي ابتكره طالب الطب يوهانس هوفر، ما يُماثل البكاء على الأطلال إلا أنّه لم يعدْ مقصورًا على أبي علاء المعري وأبي الطيب المتنبي وقيس، فلكلِّ منّا أطلاله الخاصة التي يرثي عليها..

الليلُ يَالَيلى يُعاتبُني… ويَقولُ لي سلِّمْ على ليْلى

ليلى، هي قصةٌ غير مسموعة تتلوها الليالي على أولئك الذين يطرقون باب الحنين ويهربون خشيةً من مواجهته، إذًا لماذا نهرب من الحنين إذ أردنا عودته؟
الحنين ليس له موعد ولا يأتي في غمرة ثواني.. إنما هو محض مواقف مُقدسة مركونة على يمين الوتين، وحشية الحاضر عن صدق تلك الأيام ودفئها جعلتْ من النوستالجيا معبرًا سهلًا إلى قلوبنا، وهنا تأتي آلية الدفاع التي يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية والمزاج، خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف والشعور بالوحدة.

أحدهم قال له كلمة جارحة وهو يمزح

ستُقال هذه الجملة كثيرًا لأولئك الذين اتّخذوا الليل ملاذًا لمواساة آلامهم، هنا على كل شرفة ستستمع للكثير من القصص والحكايات التي تطارد النوم، مرضى وثكالى وهاربون من فوضى النهار.. ستستمع لأنين هذه القصص، يأتي الليل وهو محمّل بالكثير من الحسابات التي أخطأنا حسابها نهار اليوم أو حتى نهار العام الماضي من ذاك تاريخ، إنها ليست مسألة رياضية أكثر من كونها إحصائية؛ تراكمات تأتي فور سماحك لها بالمجيء..

والتخلص من عبء هذه التراكمات لا يعني أن نأخذَها بعيدًا ونلقيها في أقربِ مكبّ، بل أنتفهّم أنفسنا حين أردنا المغادرة أو قلنا “لا” لفرصة لا تعوّض، أو أننا أخفقنا في امتحان ما أو أي كان ذلك الموقف، فنحن لم نأتِ هنا لنكمّل صورتنا البشرية الناقصة التي جئنا بها، بل لنثبت أنها لا تزال ناقصة ووجود بعض المناقصات هو إثبات لإنسانيتها!

ورغم هذا الصمت المهيب الذي يسري في الليل إلا أنني استطعتُ سماعَ قصة ليلى في أغنية “الليل يا ليلى يعاتبي” لأني وجدتُ ضالتي في هذه الكلمات الذي غنَّاها وديع الصافي في مطلع الخمسينات، إحساس مرهف ينبعُ من هذه الكلمات في هذا الوقت من العام بالتحديد!
اللغة المكتوبة هنا تجلب معها العديد من المعاني الحنين والشوق، وبقايا ذكريات عالقة بالذاكرة حتى يختفي المعنى في صباح اليوم التالي، فلا ذنوب الحنين عند الصباح ولا قصص ليلى مُجددًا، وما إن جاء المساء حتى تعود سيرتها الأولى:
“الليل يا ليلى يعاتبني
ويقول لي سلم على ليلى”

لا أنكر بأن شاعرية الليل جعلتها تصلح بأن تكون سردية الحكاية تتماشى مع هذا الوقت، فكم هو فضفاض هذا الليل، جميل ومحتال إن سلمت نفسك لعتمته قد يرميك في محطةٍ بعيدة غير مأهولةٍ بالسكان في زمن لا يحكمه زمان!
في هذا الوقت أنت تنتمي لهذه المحطة، وعندما تخرج منها تتصرف وكأنك لازلت بها لأنه تولَّد لديك انتماء بتلك البقعة؛ يحدث ذلك عندما تتمكّن النوستالجيا منك، فمن الطبيعي حينها تجد أن ردودَ أفعالك لا تتماشى مع المعتاد، لأنك لازلت عالق ببعض الذكريات، مما تعيق نموك العاطفي فيصبح الانسحاب من الحاضر أسلوب حياة!

عتاب، حنين، وحدة.. ليل!

جميعها تقف هنا في هذه المقطوعة في صفوف منتظمة، تدق أبواب الذاكرة بلا استئذان..

حين تجد نفسك في مقطوعة موسيقية أو في سياق نص لكاتب تشعر وكأنَّ شيء ما قد أعاد ترتيب الفوضى الذي تعتريك، وكأنّه بذلك أعطى لك شرحًا مفصّلًا عمّا يجول بداخلك، وما تحدثه النوستالجيا لنا أنها تجعلنا نشعر بالحنين والدفء لأماكن قديمة وظروف لم نعشها فور سماعنا لأغنية أو نصوص رواية ما، لذلك أعيد ترتيب الفوضى التي بداخلنا بناءً على هذا الحنين المكبوت داخل هذا النص أو المقطوعة الموسيقية، تمامًا مثل الحنين والوحدة المخبأتان في “الليل يا ليلى يعاتبني”..

دعني أقول لك شيئًا وليكن سرًا بيننا، ها؟
أنت لست وحدك، والذي تشعر به، يشعر به الملايين حولك ولكنَّك قابع في المحطة التي أخبرتُك عنها قبل قليل، أنت أسير لتأثيرٍ ما يحرّك بك هذا الشعور الغير مرغوب، عليك أن تتحرر منه قد يكون هذا المسبب للتأثير موقف قديم أو صديق سيء أو وفاة عزيز عليك.. أو أي ما كان لابُدَّ أن تتعرَّف على المسبب لتتحرر من هذا الشعور، ولا شيء أجمل بأن تكون حرًا لكيانك الداخلي، لتشعر بانتماءَك الحر لهذا العالم..