نوف العوفي
نوف العوفي

د

ذاكرة مِن شقاء.. عن حياة المُنتحرين السعيدة!

“وبعد الشهرة، أصبح يُفكر كثيراً بمكانه في هذا العالم”..

منذ سنوات طويلة كنت أبحث عن الوجه الآخر للبشر.. الوجه الذي يبقى في الظل ولا يحتفل بالبقاء! تلك الوجوه الباقية في الظل تعني لي الكثير.. فهم إما مُلهمون أو حساسون للغاية.

كانت مهمتي الدائمة هي ملاحظة الملامح، واصطياد الكلمات العابرة التي كتبها العديد من المنتحرين “المسافرين نحو الربيع” جملة Van Gogh الأشهر قبل أن يتحرر من ثقل عقله وجسده!

وبعد مضي عدة سنوات من الاهتمام المتواصل بحكايات المنتحرين الملهمين، أيقنت بأنني لن استطيع الهرب بعد الآن من ذكريات وحياة كل أولئك العظماء الذين وضعوا حداً لحياتهم، لقد اقتربت كثيراً من معرفة تفاصيل مجهولة، عن أيامهم الأخيرة وكل ماهو متعلق بهم.. فعندما يُسخّر البشر جزءً من شغفهم تجاه قضية أو اهتمام، سيجد أن الكون يتكفل بإرسال أي معلومات جديدة أو مشابهة حتى لو ذهب بعيداً عن ذلك الفضول والشغف..

لأنني أؤمن بالفكرة التى تتفاعل مع مشاعرنا بشكل صادق، حتماً ستبقى داخلنا إلى الأبد، حتى باتت قصصهم تتوافد أمامي تارةً في مقالات صباحية، وأخرى في برامج تلفزيونية تُعيد إحياء ذكرى أحدهم..

بورداين والسفر.. الحياة مُجرد أضحوكة!

لقد عشت أيام طويلة من التأثر المتواصل بحياة المغنية الفرنسية الراحلة داليدا وتفاصيل انتحارها، يليها الكاتب المصري وجيه غالي، وعنايات الزيات، وأخيراً وقعت في دوامة عاطفية تجاه قصة الطاهي، ومقدم البرامج أنتوني بورداين؛ ذلك الرجل الذي لم يتركني أمضي بسلام بل وضع حداً لتلك السكينة من خلال مواجهة حقيقة الحياة الواضحة بأن الماضي سيرافقنا على الدوام، فَلَو شاء الله أن ننتصر عليه بالتناسي ستكون نعمة كبيرة، ولو حدث العكس فلن يكون شيئاً مستغرباً من طبيعة الحياة!

فمن خلال اهتماماتي بمصائر أولئك العباقرة، اتسعَ الأمر لمعرفة كل شاردة وواردة.. من خلال متابعة أفلام تحكي سيراً ذاتية أو قراءة مقالات مختلفة.. بات الأمر أشبه بمتعة وتعاطف، ورحلة اقطعها كلما سنحت لي الفرصة في معرفة المزيد..

وفي أثناء تلك الرحلة توصلت للعديد من الأفكار والاستنتاجات الشخصية تجاه حياتهم، لكن بورداين فتح في قلبي وعقلي نوافذ لن تُقفل كونه عاش حياة تُشبه الحلم ومن ثم أوقف كل ذلك.. لذا قررت كتابة هذه التدوينة بهدف مشاركة نقطة من بحر الأفكار المتضاربة تجاه حياته الصاخبة، وموته الغامض!

حياة لامعة يكسوها الضباب..

إذا أمعنا النظر من خلف الشاشات في تلك القشرة اللامعة من حياة أغلب المشاهير المُنتحرين، سنجد أنها حياة أقرب للمثالية المتوقعة من عقول ورغبات البشر العاديين الكادحين.. منازل باذخة، حفلات تكريم وضحكات ناصعة أمام الشاشات.. علاقات غرامية حالمة، تقدير وإجلال من البسطاء إلى ملوك ورؤساء الدول، كل ذلك مجرد عرض سيرك متقن يلخصها بورداين قائلاً:

 “الحياة مُجرد أضحوكة”.

“لقد أصبحت الحياة بالنسبة لي رحلة بحث مُمتعة بدلاً من إنتظار أن تهبني كامل أحلامي، ربما كان يجب أن أموت في العشرينيات (فترة الإدمان). لقد أصبحت ناجحاً في الأربعينيات. وأصبحت أباً في الخمسينيات. أشعر وكأني سرقت سيارة جميلة ثم نظرت في المرآة الخلفية لرؤية أنوار وامضة (أضواء سيارات الشرطة عند المطاردة) لكن لم يحدث شيء حتى الآن”.

لن أتطرّق هنا إلى سرد سيرة ذاتية لشخصية عرفت بالنجاح المتواصل مثله، بل أنا بحاجة لتفكيك تلك الشخصية البشرية من خلال منظوري الخاص.. سأحاول كتابة ما يجعلنا نفهم ما معنى أن يترك الإنسان كل هذا الاغراء الدنيوي ويمضي إلى مسقط رأسه الأول.. حفرة من تراب!

أكتب هذه السطور بعد مشاهدة إحدى رحلات بورداين إلى أرض الجمال والطعام والنساء الجميلات.. إيطاليا!

كان مُفعماً بالبهجة والشغف لتذوق الباستا الايطالية.. يتنقل بين المطاعم والمقاهي.. يتحدث مع النادل والغرباء في الشارع بلغة إيطالية أمريكية الصنع.. تجوّل بملامح مرحة وابتسامة صادقة لا يغلفها دلائل ملموسة تدعو للشعور بالتعاطف!

بدأ شاباً شغوفاً من مطبخه في مدينته الصغيرة ومن ثم انطلق إلى العالم أجمع، كانت رحلة كفاح ممتدة وصاخبة يحيطها الحظ والحب من كافة الأجناس.. كان بورداين من أولئك الذين لا يتوقفون على منصة النجاح بكسل وتباهي بل يقفزون للبحث عن مغامرات جديدة في مطابخ العالم المتنوعة. 

ففي رحلة الكفاح لا يفكر المرء في إبراز مزاياه بل في تحسينها، فحينما ننظر في المرايا الموجودة في غرفنا أو ممرات منازلنا ونحن نركض نحو العمل أو رؤية الاصدقاء بعد أسبوع روتيني طويل.. نحن نرى آثار تعبنا وكفاحنا نحو حياة أفضل، فهذا ما يميز حياة الكفاح، لكن المشكلة في تلك المرحلة ما بعد الوصول إلى مُرادنا.. لن نصل بنسخة روحية جديدة كلياً.. سنصل إلى قمة أحلامنا حاملين معنا حقائب غير مرئية مملوءة بكل صخب ذاكرتنا! بكل شقائها!

ذكريات الطفولة والصبا وكل شيء.. لقد وصل بورداين إلى قمة مجده وعاش حياة حالمة تجسد أحلام الشباب المتناثرين في شتى بقاع المعمورة.. لقد جمع ذاك المغامر والطباخ والكاتب والمحاور كل الحظوظ ووضعها في إحدى تلك الحقائب التي نقلها من حيه في مدينة نيوجيرسي الأمريكية إلى عالم نجاحاته المتواصلة التي أصبحت حديث الصحف والبرامج الترفيهية والإجتماعية..

لقد جسد بورداين أيقونة النجاح المفعمة بالشغف، والمغامرة، وحياة الثراء، انصهر في عالمه الجديد دون هوادة.. إعتقدَ أن ذاكرته الجديدة كانت صالحة لكل شيء، ظنّ أن رحلة الإدمان في العشرينات قد انتهت، انطلق حاملاً شغفه إلى ثمانين دولة حول العالم، يتسكع في شوارعها، ويطبخ مع سكانها المحليين..

يُسافر في القاطرات العتيقة والفارهة، يلتقي بالبسطاء وأعيان المدن والقرى، لقد ابتعد كثيراً بجسده نحو بلاد الشمس، وبلاد النجوم الساحرة، والبراكين المشتعلة، والنساء الجميلات.. سافرَ إلى أبعد بلاد الأرض حاملاً حقيبة ظهره وسماعات الرأس، ودفتره للتدوين والكاميرات لتخليد التجارب والحوارات..

امتلك لحظات من العزلة والصفاء الذهني في قلب جبال التبت وسواحل الكاريبي الساحرة، التقط أنفاس جديدة لعلها تُضيع تلك الأنفاس القديمة قائلاً في إحدى كتبه:

“بينما تتنقل خلال هذه الحياة وهذا العالم، فإنك تغير الأشياء قليلاً، وتترك علامات ورائك، مهما كانت صغيرة. وفي المقابل، تترك الحياة والسفر علامات عليك. في معظم الأحيان، تكون تلك العلامات على جسمك أو على قلبك، جميلة.. رغم أنها تؤلمنا!”.

بالرغم من كلماته المحفزة والملهمة تجاه تجارب السفر والطعام، فقد كان شخصاً حساساً للغاية يمكن أن يؤثر على مزاجه تناول وجبة برجر سيئة في إحدى المطارات، لم تكن تلك المعلومة مجرد قراءة سريعة لفهم شخصية بورداين بل نقطة حاسمة لمعرفة كيف يعاني البشر من حساسية مفرطة تجاه ما يتقنون..

فإن كنت رساماً أو كاتباً عبقرياً ستشعر بالإحباط عند مشاهدة عمل لا يسمو إلى ذَائقتك المفضلة، كذلك هي الحياة بالنسبة لذلك الشاب والرجل الشغوف.. ليست وحدها وجبة البرجر من دفعته للانتحار بل ربما تلك الحقائب التي لا يُمكن إفراغها من ذاكرته التعيسة إلى الأبد، فالحب لم يكن كافياً لينجو.. ليُقرر التحليق بعيداً عن شعوره بضيق آفاق العالم حوله..

التصفح الإلكتروني يقودني مؤخراً إلى عالم بورداين..

بالرغم من التأجيل المتواصل لكتابة هذه التدوينة إلا أن صورهُ ورحلاته باتت تحاصرني على مواقع التواصل الإجتماعي، باتت مؤشرات البحث مُتحالفة مع أفكاري تماماً.. يبدو أن العم قوقل العبقري فهم تماماً ما أصبوا إليه، فقام بإدراجي إلى قائمة الفضوليين تجاه عالمه المليء بالقصص والحكايات الجديدة التي تسردها الصحف الأجنبية اليومية..

والتي مازالت تعيش حالة من الذهول حتى بعد مرور ثلاث سنوات على موته، وفي قائمة تلك الأخبار خبر من صحيفة الـ Washington Post التي نقلت خبراً مُؤكداً بتصوير فيلماً وثائقياً بمانشيت جذاب جداً: “بعد ثلاث سنوات من إنتحار أنتوني بوردان، يحاول الفيلم الوثائقي Roadrunner فهم كل ذلك”..

يحمل الوثائقي حكايات حصرية وساخنة جداً عن حياته وأيامه الأخيرة ما قبل الانتحار.. سيتم سردها على لسان أصدقائه المقربين، لم يكن مجرد خبر عابر بل حدثاً مُنتظراً لفهم حقائق وأسرار ذلك الشخص المشاكس الذي قرر أن يودع شغفه إلى الأبد بعدما حقق مقولته الأشهر: “هل نريد حقًا السفر في عربات محمولة مُغلقة بإحكام عبر المقاطعات الريفية في فرنسا والمكسيك، ونأكل في المقاهي المتواضعة؟ أم أننا نريد أن نأكل دون خوف الحساء المحلي ولحم التكويريا ونسعد بهدايا الغرباء بصدق.. وهي رأس سمكة مشوي؟! أنا أعرف ماذا أريد.. أريد أن أجرب كل شيء مرة واحدة” لقد فعل كل ذلك ورحل..

أنتوني بورداين.. أيقونة غير مُتوقعة!

الجميل في تفاصيل الفيلم أنه لم يتطرق إلى الجانب المأساوي من القصة ولم يبدأ بموسيقى حزينة تدعو للتعاطف والبكاء، لقد أراد المخرج؛ وهو صديق بورداين المقرب.. أن يُسلط الضوء على جوانب حياته المفعمة بالمرح كما لو كان بورداين على قيد الحياة..

يبدأ الفيلم بمشاهد مُتتالية من رحلاته حول العالم، صور قديمة من قلب مطابخ العالم، ذكريات جميلة يسردها أصدقائه المقربين.. كانت مُقدمة رائعة تُشبه روح صاحبها.

تدّرج بسرد تفاصيل حياته بإتقان مُبهر.. إحدى الجوانب التي يجهلها الكثير عن شخصية بورداين المثيرة للاهتمام تعريفه كرجل موضة من الطراز الأول.. كان أيقونة فريدة تعيش بحياة وتفكير مُختلف؛ يرتدي بنطال الجينز والقميص الفضفاض كي يتناول الكاساديا اللذيذة في مدينة ايكاتيبيك دي موريلوس في المكسيك، ومن ثم يرتدي ملابس أنيقة  للذهاب إلى مدريد وتناول النبيذ الأبيض مع طبق الأخطبوط على الطريقة الغاليسية في الليلة التالية..

هكذا يتعامل بورداين مع الحياة.. بشكل متلوّن ومُغامر، يسرق الوقت ليجد متعته الخاصة للمشاركة في الطهي حول العالم أو زيارة مطاعم مغمورة في أنحاء الفيتنام، وبكين، واستراليا وغيرها.. 

غواية الجمال! 

شخصية مثل بوردان تحمل الكثير من الاندفاع والرغبة في تحقيق الأمنيات.. لقد لمحت كل ذلك أثناء تنقله من ثقافة إلى ثقافة، إذ يتحدث من قلب الأحياء العشوائية في الهند مع أهلها ويلعب مع أطفالهم اللطفاء بمرح، يأكل طعامهم التقليدي بشغف كبير ويركض إلى حضور الألعاب النارية بجانب الأنهار المتدفقة دون تفكير أو الشعور بالتباهي وتقدير حجم شهرته العالمية.. كانت شخصيّة تسعى لجميع رغبات نفسه في تجربة كل شيء!

فموت بورداين يصنف ضمن النهايات الأكثر غموضاً ودراماتيكية.. ليلة رائعة مع الأصدقاء حافلة بالتسكع والبذخ في أحياء باريس.. شكلٌ من أشكال الوداع الصامت، فلا أعلم إن كان يُفكر فيما سيفعله حال وصوله إلى الفندق أم أنها كانت فكرة وليدة عقله المغامر الذي يعيش في أحضان اللحظة.. أم فكرة قديمة خالدة طال انتظارها.. لا أحد يعرف حتى آخر حبيباته التي رافقته إلى ما قبل النهاية.

لذا أعتقد أنني لو كنت المخرجة المخوّلة لإخراج هذا الفيلم، سأذهب إلى أعمق الأعماق.. لن أبحث عن سبب انتحاره بل أرغب في معرفة ما وراء ستار مسرح حياته الضخمة المليئة بالأضواء.. سأذهب إلى خلف كواليس ذلك المسرح.. أتحدث مع عمال النظافة الذين يفهمون أخلاقه جيداً، ومسؤول المشروبات الذي يفهم مزاجه الصباحي والمسائي.. سأذهب لمكتبة بيته لمعرفة مفضلاته الأدبية واطلب استعارة موسيقاه الخاصة لوضعها كخلفية مُتقطعة للعديد من مشاهد الفيلم.. سأذهب لتلك المطاعم والحانات القديمة ما قبل الشهرة، فذلك النوع من الأماكن يحتفظ بذكرياتنا أكثر من أي مكان آخر، سألتقي بأصدقاء المدرسة الثانوية والحديث معهم، ومحاولة تذكر أصغر تفاصيل تلك الأيام.

أفعل ذلك بعيداً عن التحقيق في أسباب وفاته، لأنه عندما يقرر المرء إنهاء حياته دون ذكر الأسباب فهو يريد بكل بساطة أن يتركه العالم وشأنه والانصراف إلى أشياء أكثر حميمية أو ربما يكون قد وقع تحت غواية الجمال راغباً في تخليد نهاية أقل تقليدية تشبه تناقضات الحياة!

وروحه المغامرة دوماً كما عاشت بطلة ليو تولستوي الأعظم (آنا كاريينا).. وُلدت هذه الفكرة بعد قراءة تحليلات الكاتب الفرنسي ميلان كونديرا تجاه موت آنا كارنينا، فمن خلال منظوره أنها سعت لنهاية لائقة لكونها امرأة عاشقة غامضة.. نهاية تشبه البداية!

كانت غواية الجمال تلحقها إلى الموت لمن تكتفي بفستانها وجمالها الباهر والبحث عن الحب المكتمل.. لقد أرادت أيضاً نهاية أكثر تشويقاً كما هي حياتها، يُحيل كونديرا ذلك إلى غواية الجمال التي تتحكم في مصائرنا وأفكارنا، فربما سعى بورداين إلى نهاية أكثر سلاماً في مدينة الحب والليالي الساهرة.. تجاوز قرارات القدر واختار نهايته في أفخم فنادق باريس بدلاً من الموت في مكانٍ لا يليق بقيمته كما قال كونديرا:

“لنُلخص الفكرة: ذهبت آنا إلى المحطة لترى فرونسكي وليس لقتل نفسها، وما أن صارت على رصيف القطار حتى فاجأتها وأغرتها مصادفة غير متوقعة.. أن تعطي لسيرة حياتها وحبها شكلاً مكتملاً، وأن تربط بداية لقاءها بنهايته! منظر المحطة والموت تحت العجلات.. لأن الإنسان يعيش تحت إغواء الجمال دون أن يعلم ذلك!”.