إسراء عصام فتحي
إسراء عصام فتحي

د

سجون مادية أم نفسية؟

إنّ السجون تغيّر من طبيعة الأفراد؛ تُحول مسار حياتهم، طبيعتهم، إدراكهم للأمور ونظرتهم إلى الحياة فيما بعد.. قلما نجد أشخاص دخلوا إليها وعادوا إلى نفس الإنسان الذي كان.. هناك منطقة داخل أرواحهم تتغير؛ إما إلى حد السماء وإما إلى جوف الأرض!

منطقة داخل عقلهم تتغير عيناها التي ترى بها الأشياء، إما تسترد بصرها أو تفقده لتعيش في ظلام دامس باحثةً بذلك عن شعاع ضوء مبدد لتلك العتمة.. مجدد لهم الحياة مرة أخرى..

يولد الإنسان حراً رغم كونها حريةً غير مطلقة؛ تتحكم بها ويحددها الكثير من العوامل، حتى وإن إعتقد الإنسان كونها مطلقة.. إلا أن البشر يظلوا عبيداً للكثير من الأشياء على مدار حياتهم من بينها المال، النفوذ الاجتماعي، السلطة و غيرها.

إلا أن الحرية التي يُحرم منها الإنسان حرية مختلفة عن التي يُولد بها في أعماقه… حرية نفسه وآفاقها، الحرمان الداخلي من الذات كطفل فقد أمه داخل ذلك السجن العميق من أسوار روحه، قبل أن يفقدها حقيقةً ومجازاً داخل أسوار السجن المادي.

يمر الإنسان بعواقب نفسية وخيمة أثناء مرور كل تلك المراحل… مروراً بالتشوهات المعرفية والعاطفية وصولاً إلى تبدد الشخصية وتدني احترام الذات وجلدها بصفة مستمرة. وتفيد تقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) إضافةً إلى البحوث التي أجريت في ذلك الصدد؛ إن حوالي واحداً من كل سبعة نزلاء يعاني من اضطرابات نفسية خطيرة، وبالنسبة للنساء تكون التشوهات النفسية بالنسبة لهم أشد وأكثر عنفاً وخطورة..

وتجدر الإشارة إن تلك الاضطرابات أيضاً لم تكن وليدة لحظة فقد الحرية أو الوصول لموضع السجن الجغرافي؛ إنما خراب داخلي شارك في تكونه قديماً الكثير من الأشياء والصدمات التي عاشوها مسبقاً خلال حياتهم… من بينها العنف الأسري، تعاطي المخدرات والتنشأة المبكرة داخل أوساط أسرية غير سوية نفسياً لا تستحق تنشأة طفل أو تولي مسؤوليته. تتحكم الكثير من الخلفيات الاجتماعية في الصحة النفسية الخاصة بالسجناء..

فكثيراً ما ارتبطت هذه الاضطرابات بالبطالة، الفقر، التمييز، العنف ولا سيما الأسري منه، اعتلال الصحة، الإدمان على المخدرات.. وكلها عوامل دفعت بهم بشكل أو بآخر للإجرام وللمرض النفسي قبل وبعد دخول السجن، ومنهم من يرتكب الجريمة بدافع الفقر وغيرها من العوامل كما سبق ذكرها، ومنهم من يرتكبها بدافع علة المرض النفسي ذاتها.

بعضاً آخرون يصنفوا كأصحاء على المستوي النفسي وأياً كان الدافع خلف ما أصبحوا عليه؛ تصيبهم التشوهات النفسية أجلاً أم عاجلاً داخل تلك المنظومة ولا سيما مع عدم تقديم الرعاية النفسية والصحية لهم في بعض الدول، فليس كل السجناء مجرمين وليس كل الأحرار أسوياء…

فقضية كقضايا الغارمات علي سبيل المثال: لم يكن أصحابها ذو دوافع إجرامية من قبل، إلا إنهم أجبروا على ما أصبحوا عليه فيما بعد بدافع الفقر والكثير من الايدولوجيات الخاطئة الخاصة بالزواج في المجتمعات العربية. حتى تُنتقص الفرحة و تهدم امام من كان يحاول بنائها يوماً… تعطي ابنتها الفرحة والعرس في سبيل دفن روحها إلى فترة من الزمن وإن لم يكن للأبد، بيت يُبني وبيت يُهدم والنتيجة متساوية.. ما يتم حفره يتم دفنه مرة أخرى ولا تظهر إلا آثار الخراب..

هكذا المجتمع يخلق ظاهرة إجتماعية سلبية يترتب بناء عليها الكثير من الظواهر والأمراض المستقبلية.

يعاني كل سجين داخل منظومة السجن من قتل الوقت والإنتظار… و الوقت قاتل بطيء لا يرحم أحد، ما إن تسلل لنفس الشخص حتي يفقده شغفه، مسعاه، أحلامه الصغيرة وحريته أيضاً ربما.. ولا سيما إن لم تساعد إدارة السجون في البلدان المختلفة السجناء علي ذلك العامل تحديداً.. من خلال التثقيف، القراءة وغيرها من الأمور التي من شأنها أن تصلح الفرد وتعيد تأهيله قبل أن تساعده علي قضاء وقته… ليُورث الإنسان الحلم ويُرث الصبر أيضاً.

في السجن يتعري الإنسان روحياً أمام غيره.. فرغم القضبان و الحوائط.. إلا أن الروح تفقد كل صمام دفاعي لها، في الحياه العادية يحاول الإنسان إخفاء الكثير عن محيطه الاجتماعي وعن نفسه أحياناً.. ما أن يلبث إن يتعرى روحياً حتي يصيبه الضعف الداخلي ولا سيما في مواجهة نفسه.

إن الإنسان يحتاج إلي تأهيل مستمر على المستوي الروحي والمعرفي، ولذلك نأمل أن تكون السجون لا للعقاب أو التعذيب، والذي قد يورث عنه مزيد من الإجرام ومزيد من التشويه النفسي بعد انقضاء مدة السجن… إنما لتصبح مساحات مكانية للإصلاح والتهذيب وإعادة ترميم الشخصية الإنسانية ومساعدتها في التعرف علي نفسها من جديد.. فتهذب نفسها بنفسها دون الحاجة إلي عامل خارجي.