ولاء عطا الله
ولاء عطا الله

د

ورقة من الماضي

منذ ثلاثة أيام تحديدا وبينما أنا غارقة على آخري داخل دروب لولبية، لا يحدها سوى ضيق الزمن الذي آخذ في الالتفاف حول عنقي، فلا أستطيع الالتفات عدا التطلع إلى تاريخ اليوم والاستمرار بالكتابة رغم علمي بأن هذا الجزء سوف يُمسَح بعد قليل.. أرى أبي وقد قام فجأة من مجلسه المواجه لي، جاء وجلس بجواري بغتة وفي يده ورقة ما، اقترب أكثر ومد يده لي بالورقة، وقال “خذي اقرأي هذه الورقة” قالها وعلى ملامحه مزيجاً من الابتسام والتعجب، فقلت له بلا مبالاة “ماذا تكون” فأصرّ على رأيه بأن أستكشف بنفسي!

نظرت إليها بشكل عابر بادئ الأمر، لكنني انتبهت إلى اسمي في بدايتها، ورحت أقرأ باهتمام.. الورقة كانت عبارة عن خطاب من أبي إلى إدارة مدرستي الثانوية يطالب فيه بتأجيل السنة الدراسية الأولى رافضا دخول الاختبارات، حيث أنني كنت مريضة طوال ذلك العام بالتالي لم أكن أحضر، والمدرسة قد أرسلت لي رسالتين طرد من قبل، لكنهم غفروا لي بعد علمهم بمرضي، ووافقوا على دخول الاختبارات، لكن عائلتي رأت أنني غير مستعدة وبالفعل كنت كذلك، فأرسل لهم ذلك الخطاب، ولا أعرف كيف هو يحتفظ به حتى الآن؟!

الورقة قد أحدثت بداخلي هزة مخيفة، جعلتني أعود معها غصباً إلى أكثر مراحل حياتي سوداوية، كنت أشبه بجثة بالكاد كنت أشرب وأكل، حتى بعد شفائي تدريجياً ودخولي العام الجديد المكرر، كانت تلك الفترة ككابوس لا يلبث أن يداهم أحلامي مانعا إياي من العيش براحة وأمان، قد قُتلت طفولتي ومعها فترة مراهقتي، جسدي كان هزيلا وهشا أما رأسي فكان يضج بعذاب لا يحتمل، ظننت أكثر من مرة أن رأسي سوف ينفجر في أية لحظة، لكن كان هناك يدا خفية تربت علي كلما أوشك على الانهيار.

و رويداً رويداً تعايشت مع مرضي بل وتصالحت مع بقاياه التي ظلت موجودة معي حتى دخولي الجامعة.

طرقع أبي بإصبعه وسأل “تودين الاحتفاظ بها؟!” لا أعلم تحديدا ماهية الشعور الذي أحسسته وهو يقول هذا، فقط مشاعر متداخلة ما بين الخزي، الحزن والفشل .. لكنني فجأة وجدتني أضحك بشكل متصنع وقلت “من الذي يود الاحتفاظ بشيء يذكره بفشله ومرضه؟” ضحك أبي وأظن أنه شعر بالخجل، لكن مهلا.. دمعتي قد سقطت وصوتي الداخلي يؤنبني، حتى الزمن نفسه قد تعاطف معي وراح يفك حبله عني آخذني معه داخل دروبي المتداخلة المظلمة، حاولت التهرب لكنه كان مصرا كاصرار أبي..

أصابتني الأمراض منذ صغري. قد أوجعت عائلتي كثيراً، في مراحل كثيرة ظنوا أنني سوف أموت، لكن باستقراري نسبيا في مرحلة الجامعة قد تخطيت كل الفترات الصعبة. لكن جاء موت زميلتي المفجع، لم نكن صديقتين لكن قبل موتها بأيام قليلة كنا نتسامر، والغريبة أن تلك كانت أول مرة يطول فيها الحديث بيننا. اكتئبت قليلاً ثم عاد شبح مرضي الأول يحلق فوقي، عائلتي حاولت بشتى الطرق أن ترفه عني، لكن الندوب يصعب إزالتها خاصة لو حاولت معها باستماتة!

نصحتني أختي أن أعود إلى الكتابة لتخفف عني، فكتبت نصا قصصيا ًً قد اُوحي إلي من موت زميلتي المفاجئ.. “رحمها الله” وتلك كانت أول تجربة لي. بعد عام زرت أختي مصادفة في عملها، فعرفتني بزميلة لها، تحدثنا وعرفت مني أنني أكتب أحياناً، فرشحت لي “نادي القصة بأسيوط” في بلدي مصر، وقدمت لهم النص ولم يصدقوا أنه أول تجربة لي، أحببتهم رغم نقدهم اللاذع وأحبوني، ثم شاء أن أخطف المركز الثاني في مسابقة النادي عام 2012 ثم تخرجت في العام الذي تلاه، وبتخرجي شعرت أن الحياة قد توقفت بي؛ فعدت إلى فتراتي الغابرة أتخبط بين ظلالها من وقت لآخر.

أخبرت زميلة لي كنت على تواصل معها، واقترحت أن نأخذ شهادة إضافية في إدارة الأعمال لنسلي وقتنا! وافقت على الفور فأنا بطبيعتي أحب دراسة الإدارة، مدة الدراسة كانت عامان، لكن عند بدء الترم الثاني من العام الأول، ظهرت فجأة مخاوف كثيرة راحت تزعجني بشكل مستمر، كالازدحام والضوضاء وحالة الفزع المفاجئ..الخ فقررت أنني لن استئنف الدراسة رغم المحاولات الكثيرة في منعي من هذا القرار الأحمق، الذي لم يترك فيّ سوى الندم فحزن فاكتئاب مضاعف، حتى بعدها بعامين أخذت قرارا بدراسة دبلومة تربوية في الحاسب الآلي – وكانت الدراسة عبر الإنترنت مما حفزني أكثر – ممنية نفسي أنني سوف أعمل مُدرّسة رغم علمي في قرارة نفسي أن هذا لن يحدث.

وقتها كنت قد نضجت بشكل ما، قد علمتني أخطائي وتجاربي، المرض نفسه قد علمني، ورحت أهتم بالكتابة رغم بطئي فيها وأقصد هنا بكتابة النصوص القصصية، فاخترت أن أكتب التدوينات والخواطر كونها أسهل، وكانت منصة “مقال كلاود” هي حاضنتي، ورغم سعادتي بأن تدويناني باتت تُنشر على الصفحة الرئيسية، إلا أنني كنت أشعر بالحزن لهجر كتابة القصص، فوليّت قلمي بكل تركيز نحو قِبلتها، وقد كلل نصا لي بالفوز بالمركز الأول في “مسابقة إقليم وسط الصعيد”، لاحقه تكليل آخر – وهو الأغلى إلى قلبي – الفوز بالمركز الأول في “مسابقة قصص على الهواء التابعة لمجلة العربي”، ثم المفاجأة والتي لازلت دهشة بسببها وهي مراسلة مدونة “أراجيك” لي، طالبين مني الانضمام بدعوة خاصة للكتابة داخل أروقتهم، لا أعرف حتى الآن كيف وصلوا إلي! لكنني سعيدة للغاية بتلك الدعوة.

الرحلة قد طالت وأنفاسي تهدجت، وأبي لازال جالسا بجواري والورقة بين يديه، سكون غريب قد حل علينا؛ كأن الزمن قد طار به هو الآخر. أعود إلى استئناف الكتابة، لكن نفسي لازالت مأخوذة، كأنها تنتظر مني فعل ما مغاير يناسب تلك اللحظة القدسية. أبي يعود إلى مجلسه وقد طوى الورقة ووضعها داخل حقيبة ما بها أوراق كثيرة، لكن الزمن قد عاد ليلف عنقي من جديد، يوسوس لي “الثلاثون قد اقتربت منكِ وأنتِ لم تفعلي شيئاً بعد” الزمن محتال، دائماً ما يسخر بالدرجة التي نخشى فيها من مواجهة مخاوفنا. يكون قويا الذي يستطيع مجاراته بل والتعلم منه.

أمسح الجزء الذي كتبته سابقا، أرى أبي وهو يمضي نحو غرفته، شعورا بالحزن يعتريني، ليس بسبب عسر الكتابة، ولا بسبب تلك الورقة وتذكيري بماضي المخيف، إنما لأنني رفضت أخذها. هو الآن في زيارة إلى بلدتنا، عندما يأتي سأطلب منه تلك الورقة للاحتفاظ بها، فهي أجدر من الاحتفاظ بشهادات لم تمنحني أي جديد، بخلاف تلك الورقة التي علمتني أن الماضي يستحق الالتفات إليه والغوص بداخله بين الفينة والأخرى، كي يُرينا أين كنا وكيف أصبحنا.