قبات شيخ نواف الجافي
قبات شيخ نواف الجافي

د

الكوردولوجي: تحديات وآمال

يعتبر حقل الكوردولوجي (الدراسات الكردية), حقلا واعدا في مجال البحث العلمي. حيث تعتبر المعرفة الأكاديمية بالتاريخ الكردي تحديدا قليلة ومحدودة أذا ما قورن بتاريخ شعوب الشرق الأوسط الأخرى من عرب و فرس وترك و آشوريين. وقد أشار الباحث البريطاني ديفيد ماكدويل في مقدمة كتابه (ix), “تاريخ الكرد الحديث” الصادر عام 2004, إلى قلة الدراسات عن التاريخ الكردي. بداية, يقصد بالكوردولوجي ذلك الميدان العلمي الذي يهتم بدراسة مختلف جوانب الشعب الكردي من تاريخ و ديانة و أدب و ثقافة و لغة بشكل أكاديمي علمي أستنادا إلى الوثائق والآثار والمعطيات والأدلة العلمية المتنوعة بعيدا عن التحيز أيا كان مصدره. بهذه الطريقة, يصبح حقل الكوردولوجي منتجا للمعرفة عن أصول و تطور الشعب الكردي على مر العصور.

 لقد عانى تخصص الكوردولوجي كثيرا في جامعات دول الشرق الأوسط عامة, وجامعات تركيا, أيران, العراق و سوريا خاصة لأسباب سياسية لا داعي للخوض فيها؛ إلا أن جهود الأستشراق ساهمت كثيرا في ردم هذه الفجوة المعرفية إلى حد كبير, وهكذا يرجع الفضل الأكبر لتطور ميدان الكوردولوجي إلى جهود المستشرقيين الغربيين عامة, و الأستشراق السوفييتي خاصة من أمثال فلاديمير مينورسكي (1877-1966), و باسيلي نيكيتين (1885-1960), وهذا الأخير, هو الذي أستعمل أول مرة كلمة الكوردولوجي عام 1932, وله كتاب هام بعنوان “الكرد: دراسة سوسيولوجية وتاريخية” و بالتالي, يرجع للأستشراق السوفييتي الفضل الأكبر عن الأضافات العلمية والمعرفية الهامة عن التاريخ الكردي إجمالا.

 ومن المؤلفات الهامة عن الكرد بشكل عام نذكر كتاب “مروج الذهب و معادن الجوهر” لمؤلفه المسعودي (وفاة – ميلادي 957), من آوائل الكتب التي تناولت الإمارات الكردية في العصر الوسيط بشيئ من التفصيل إلى جانب كتاب “شرفنامه” لمؤلفه البدليسي (وفاة – ميلادي 1601), الذي يعتبر الكتاب الأساس للتاريخ الكردي الوسيط. و كتاب (شرفنامه) الذي فرغ من كتابته الأمير البدليسي عام 1597 م، يبحث في التاريخ الكردي والإمارات الكردية وبذلك يعتبر المصدر الأساس لتاريخ شعب كردستان كما أسلفنا، وبهذا الصدد يقول الدكتور كمال مظهر, أنه لا يوجد أي كردي يقرأ ويكتب, كما لا يوجد أي مستشرق أجنبي لم يسمع بكتاب شرفنامه أو أسم مؤلفه شرفخان البدليسي. لقد طبع الكتاب حتى الآن عدة مرات وترجم إلى العديد من اللغات العالمية ويعتبره الكثير من الباحثين أحد أهم المصادر التاريخية عن الكرد. طبع كتاب شرفنامه أول مرة عام 1860, وعندها كتب المستشرق زيرنوف مقدمة باللغة الفرنسية وضح فيها أهمية الشرفنامه بقوله: (القيمة العلمية لهذا التاريخ الكردي ليس محل شك, فرغم مرور ثلاثمائة عام لا نجد في الشرق عملا علميا آخر يضاهي قيمته قيمة الشرفنامه). كذلك يعتبر كتاب “سياحتنامه” لمؤلفه أوليا جلبي (وفاة – ميلادي 1684), الذي يعتبر كتاب هام ذو طابع جغرافي-ثقافي عن الإمارت الكردية في بدايات العصر الحديث. وكذلك يعتبر الرحالة و الجغرافي الأيطالي ماركو بولو (1254-1324)، أول شخص من الغرب يذكر أسم كردستان في كتاباته واصفا الكرد بالشعب المحارب.

وفي العصر الحديث, تعد كتابات المستشرق الهولندي مارتين فون بروينسن وخاصة كتابه “الآغا, الشيخ و الدولة” وكتابات أخرى عن ديانة الكرد مفيدة جدا. كذلك ألف الباحث الكردي-الأمريكي مهرداد آزادي, كتابه”مختصر تاريخ الكرد” وهو كتاب مختصر يعطي الكثير من المعلومات ولكن بكلمات أقل, و هو و أن طغى عليه النزعة القومية فهو مايزال كتاب هام للمبتدئين. وأيضا كتاب “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان” للعلامة محمد أمين زكي الذي يعتبر كتاب أساسي و أجباري الأطلاع لمن أراد الكتابة عن التاريخ الكردي. ومن الباحثين المعاصرين نذكر جلال زنكبادي في كتابه “الكوردولوجي: موسوعة موجزة” هذا كتاب جميل ومفهرس بشكل علمي سلس وعنوانه يخبرنا الكثير بأنه تغطية لكافة جوانب الكوردولوجي. وأيضا نذكر من المؤرخين الكرد المخضرمين زرار صديق توفيق و كتابه المفيد جدا “القبائل و الزاعمات القبلية في العصر الوسيط” و فرست صوفي مرعي وكمال مظهر (هذا الأخير متوفي حديثا), لديهم كتب ودراسات هامة عن التاريخ الكردي في العصرين الوسيط و الحديث.

الأستشراق والكورد ناسي

أما بخصوص الأستشراق, أو ما يقابله مصطلح “الكورد ناسي” (وهو مفهوم متلازم في الدراسات الأستشراقية حينما يأتي الحديث عن الدراسات الكردية وهو كذلك مرادف حقيقي للكوردولوجي و بالتالي يكون جزءا من الأستشراق), فهي حركة فكرية معرفية غربية (أوروبية أساسا), تهتم بدراسة علوم و لغات و ثقافات و حضارات الشرق عامة, و الشخص الذي يقوم بهذا التخصص يطلق عليه أسم المستشرق. أنه ليس بالأمر السهل تحديد تعريف عام للأستشراق لتنوع مدارسه وأهدافه إلا أن التعريف السابق هو تعريف عام ومبسط ويؤدي الغرض المطلوب. و يجب أن يفهم بأن الأستشراق لديه جانبيين أو فرعيين رئيسيان: الأول هو فرع أكاديمي معرفي تخصص في دراسات الشرق ومن ضمنها الإسلام والشعوب الشرقية بدافع حب العلم والمعرفة وكشف الحقائق…الخ و الشق الثاني, كان لأغراض سياسية أيديولوجية دينية لخدمة لحكوماتهم ودولهم والتمهيد للأستعمار و التغلل الأوروبي بالتحديد في شتى أنحاء العالم. أن للأستشراق الأكاديمي المعرفي فضلا كبيرا على حقل الدراسات الإسلامية و الكردية والشرقية بشكل عام. أن التراث الشرقي نما و توسع حفظه وتحقيقه ونشره في القرون الأخيرة بفضل جهود المستشرقين الجاديين الموضوعيين الذين كانوا يهدفون إلى كشف الحقيقة و نشرالمعرفة بحيادية منهجية علمية دون أي توجه سياسي أو أيديولوجي أو مذهبي. هؤلاء هم المستشرقون المنصفين الذين أخضعوا التراث الإسلامي و الشرقي عامة للدراسة و التحليل و أن كانت من أحدى عيوبهم عدم الأتقان الكامل للغة العربية أو الكردية لكن كان لديهم مستوى متقدم عالي فيه. إلا أن هذه النقطة كانت من أحدى المأخذ عليهم عند التعرض لدراسة النص القرآني أو نصوص تاريخ الشرق إجمالا. من هؤلاء المستشرقين المنصفين: السير هاملتون جب, شاخت, أسبوزيتو و وات و فاس وغيرهم من الذين ذكرناهم حين الحديث عن الكوردولوجي.

ومما أفسح المجال أمام المستشرقين في التقدم و الأبداع في دراساتهم دخول الفكر الشرقي إجمالا و الإسلامي خصوصا في سبات فكري معرفي عميق منذ أن وضع أبن خلدون رأسه إلى يومنا هذا. كان هنالك بعض المفكرين الذين قدموا خدمات جليلة وأسهامات هامة لتراث الشرق و الإسلام من أمثال الكواكبي, مالك بن نبي, محمد أركون, العروي, الجابري, هشام جعيط, طه حسين, شريعتي, عبد الرحمن بدوي, محمد أمين زكي, علي الوردي, صادق جلال العظم, جورج طرابيشي, البوطي, وائل الحلاق, أدوارد سعيد, طارق رمضان… إلا أنهم لم يرتقوا إلى مرتبة الفيلسوف لعدم توفر نظرية واضحة المعالم لديهم. خذ مثلا المفكر الفلسطيني أدوارد سعيد الذي لطالما أنتقد الأستشراق الغربي, وخاصة أذا ما علمنا بأن المواضيع الأساسية التي تناوله المستشرقون كانت في نقد النص القرآني و الوحي و نزول القرآن الكريم أي فترة صدر الإسلام الأول, حيث كان أدوارد سعيد نفسه لديه قصور معرفي أكاديمي بهذا الفترة و بهذا التخصص. وكذلك مالك بن نبي, حيث كان يكتب بلغة المستشرقين (الفرنسية), لأبناء بني جلدته العرب, أضافه إلى تقليده وتأثره بأبن خلدون, وبالتالي لم يكن عنده جديد أصلي حتى عند تحديده لشروط النهضة.  

بيتما تجد على الطرف الآخر, بلاد كألمانيا مثلا, تنجب عدة فلاسفة في زمن واحد. أنظر على سبيل المثال لا الحصر, إلى الأنتاج الفلسفي لعملاق الفكر الألماني وشيطان فلسفتها الأكبر نيتشه (1844-1900), الذي ألف خمسة كتب في عام واحد, وصاحب كتاب “هكذا تكلم زرداشت” باحثا عن الأنسان الأعلى أخلاقيا في الوقت الذي كان الكثير من فقهاء المسلمين, وعلى مختلف مذاهبهم, يتجادلون عن شرعية وحرمة معاشرة ونكاح الزوجة الميتة (اللقاء الأخير). أنا هنا لا أمجد فلسفة نيتشه فهو بنفسه كان يكره النساء و الأنوثة ويعتبرها مجرد حقل جنسي لا غير في المحيا وليس في الممات, وكذلك دخل باب الفلسفة الألحادية و العياذ بالله عندما أعلن صراحة موت الإله, ولكن لم يصل به الحد إلى التفكير(على الأقل أخلاقيا), بشرعنة ما كان الفقهاء بصدده. أنا كل ما أعرفه عن لحظات الموت, أن القلوب تحزن و العيون تدمع وألم الفراق يقشعر له البدن. هكذا نقاشات فقهية  كان من المفروض أن لا تحدث أصلا, مصداقا لقوله تعالى عز وجل “وجعل بينكم مودة ورحمة”. سورة الروم. الآية: 21.

تحديات

يعد البحث في التاريخ الكردي القديم تحديا معرفيا و أكاديميا حقيقيا لدى الباحثين حيث كثرت النظريات و الآراء عن أصول الشعب الكردي نذكر منها ما قاله الباحث الألمانى باول وايت “ان الصعوبات فى تعريف كلمة كرد تواجه الاكاديميين منذ القدم، لا يوجد هناك تعريف واحد متفق عليه، وحتى المؤرخ مينورسكى يصف هذا المصطلح (الكرد) بالغامض والمبهم”.  كما أن بعض المؤرخين يرجع أصل الكرد الى “الهوريين سكان مملكة ميتاني سنة 1500 قبل الميلاد ومنهم من يعتبر ان أغلب الاكراد من الميدين”. ومن المؤرخين الاكراد الذين يركزون على هذه النظرية التي تعتبر بأن عصرهم الذهبى بدأ فى القرن السابع قبل الميلاد فى مملكة الميديين محمد أمين زكي (1880 – 1948), في كتابه (خلاصة تاريخ الكرد وكردستان), بأن الكرد يتألفون من طبقتين من الشعوب، الطبقة الأولى، يرى انها كانت تقطن كردستان منذ فجر التاريخ، ويسميها محمد أمين زكي (شعوب جبال زاكروس)، وهي (لولو، كوتي، كورتي، جوتي، جودي، كاساي، سوباري، خالدي، ميتاني، هوري أو حوري، نايري)، و يراها الأصل القديم للشعب الكردي. والطبقة الثانية: هي طبقة الشعوب الهندو-أوروبية التي هاجرت إلى كردستان في القرن العاشر قبل الميلاد، واستوطنت كردستان مع شعوبها الأصلية وهم الميديون والكاردوخيون، وامتزجت مع شعوبها الأصلية ليشكلوا معاً الأمة الكردية”.

 أن لست متخصصا في التاريخ القديم, ولكن يجب على المؤرخين الكرد توسيع دائرة  تخصصهم و الألمام بلغات الشرق القديمة و الحديثة التي تعتبر من أحدى أشكاليات البحث في التاريخ القديم, و أتقان مناهج بحث جديدة لتنقية أصول التاريخ الكردي وتحديد مصادره خاصة في ما يخص بفترة التاريخ القديم حيث يعتبر هذا الأمر تحد كبير لحقل الكوردولوجي. أن تدريس مادة الكوردولوجي في الجامعة لا يجعل من المدرس متخصصا فيه, التخصص العميق الدقيق في أي مجال يأتي من خلال البحث العلمي الجاد الأصيل وليس من مجرد حشو نظري و أعادة تدوير و تكرار قصص و أساطير الأولين لزخرفة السيرة الذاتية فقط. لذلك يجب تجهيز فريق من المؤرخين الكرد في مجال التاريخ الكردي القديم, حيث يعتبر نقص المختصين في هذا المجال تحد كبير في حقل الدراسات الكردية.

التحدي الآخر يكمن في الرفض السياسي و المجتمعي ربما للقضية الكردية في الشرق الأوسط إجمالا, و ليس فقط للكوردولوجي كتخصص علمي. الحل في أعتقادي و الله أعلم, يكمن في تطوير المعارف العلمية الدقيقة عن الكرد و تاريخهم, هذا التطور العلمي سيؤدي فيما بعد لتجاوز مرحلة الرفض التي ذكرناها سابقا لتتعدى إلى مرحلة القبول و التعايش تدريجيا. ولتجاوز هذا التحدي يجب معالجة التحدي الأول السالف الذكر.

آمال

ما أصعب العيش لولا فسحة الأمل. هذا ينطبق أيضا على حقل الكوردولوجي, حيث يعتبر فتح مراكز كوردولوجي- دراسات كردية في جامعات الشرق الأوسط و العالم بمثابة أمل واعد في تعزيز الهوية التاريخية والحضارية للشعب الكردي وينبوع معرفي أكاديمي موضوعي حيادي في الأتجاه العلمي الصحيح. ويعتبر مركز الدراسات الكردية في جامعة زاخو التابع لكلية العلوم الإنسانية صرحا أكاديميا وخطوة هامة في هذا المضمار. أيضا يمكن لأقامة المؤتمرات العلمية الدولية, ورش العمل, الزمالة الأكاديمية, الأبحاث المشتركة مع جميع جامعات العالم من تعزيز الآمال بمستقبل مزدهر لحقل الدراسات الكردية على الصعيد الأقليمي و الدولي. أذا القبول و التعرف الأكاديمي الذي يؤدي بدوره لاحقا إلى قبول سياسي-مجتمعي تعد علامة فارقة في هذه المسألة؛ ففي كثير الأحيان, الهواجس الأمنية و السياسية عن شيئ ما سببه الجهل و نقص المعرفة عن هذا الشيئ.

وأخيرا, يعتبر الكوردولوجي من حقول و ميادين المعرفة الشرقية إجمالا و الكردية خصوصا و التخصص و التعمق فيه يجعل من التاريخ الكردي أكثر فهما على الصعيد العالمي ويأسس لقيم التعايش المشترك و السلم الأهلي كركيزة أساسية لشعوب الشرق الأوسط كافة وتعزيز روابط الأخوة الكردية و العربية الممتدة جذورها تاريخيا إلى الوقت الحاضر, وكذلك تجسير التعارف الإنساني ودعم التنوع الثقافي و الديني و العرقي.