زيد الشريف
زيد الشريف

د

محاولة لفهم (مسخ) كافكا

قبل بضع ليالي…

بينما القارب يشق عباب الأمواج الهائجة، التي غدت ثلجية اللون -أو هكذا بدت- تحت تأثير ضوء القمر. وبينما (نبيل شعيل) يشدو بأغنيته الجديدة، أطفأ أحدهم (المسجل) ليسأل عن توقعاتنا في (الانتخابات الأمريكية)؟!

في هذه المنطقة المظلمة، على سطح البحر الأحمر، حيث لا يُرى سوى الظلام الممتد!

في هذا المكان الذي توجد على ضفته -البعيدة نسبيًا- مدينتنا الصغيرة(القنفذة) -جنوب السعودية- جاء هذا السؤال  عن أمرٍ يجري على بعد الآف الأميال!

أمر من المفترض أنه يخص قومًا أجزم أنهم لم يعرفوا أرضًا تدعى (القنفذة) من قبل!

لعلك تقول: هذه أمريكا يا سيد! 

وأنا أؤكد لك أن الفائز في (انتخابات أمريكا) سيكون (إمبراطورًا) لكامل الكرة الأرضية.

إذاً لماذا التعجب؟!

سأجيبك بعد قليل، ولكن عندي لك قصة أخرى… تقول القصة:

 عند الصباح الباكر، وبينما كان (زيجمونت بومان) -عالم إجتماع، يهودي- يتناول كوب القهوة، بعد ليلة شاقة؛ قضاها في القراءة والكتابة؛ في محاولة لفهم بعض الظواهر التي طرأت على السلوك البشري -النموذج الأوروبي خصوصًا- قرر أن بعض الحل يكمن في سحب الورقة الفارغة أمامه… ثم كتب رسالة إلى (بابا الفاتيكان) يقول فحواها: “إنه يجب على الكنيسة -إن أرادت الاستمرار- أن تسمح بـ(الطلاق) لأن العالم (الإستهلاكي) اليوم لم يعد يتحمل فيه الفرد الحياة بلا تغيير!”

ولعلي أجزم أن (بومان) برسالته هذه؛ لم يكن يتوقع أن (الكنيسة) ستستجيب لطلبه؛ ولكنه أراد شيئا بعيدًا..  لقد أراد أن يصرخ في وجه الحياة ( الاستهلاكية الغربية) التي جعلت الإنسان عبارة عن (سلعة) تخضع لقانون (العرض والطلب). 

في تلك الحياة ترعرع (كافكا) -كاتب   بالألمانية (١٨٨٣-١٩٢٤)- وقضى بين جنباتها بقية حياته. لكنه كان كافرًا بتلك الحياة ، بل  ولعنها لعنة مدوية، على طريقته الخاصة، حين كتب عمله الجبار (المسخ)

بإرادة منها، أو بغير إرادة ؛ فإن الحياة (الإستهلاكية ) الحديثة، التي تزامنت تقريبًا مع (الثورة الصناعية ) قد غربلة الإنسان، وقامت بتحويله من (قيمة عليا) تستمد قيمتها من ذاتها ( ولقد كرمنا بني آدم) إلى مجرد (آلة) تحظى بكل التقدير؛ عندما تكون بحالة جيدة، أما عندما يتخلخل ميزان الإنتاجية لديها؛ فإنها تصبح حينئذ (عالة) على الحياة.

كيف يصير الإنسان عالةً؟

عندما يؤمن (جريجور) أن السعادة في الحياة مرتبطة بقدرتنا على (الإنتاج) فيقرر أن يفني وقته، وصحته في العمل، دون أن يلتفت إلى حقوق نفسه عليه، فإن  تلك النفس التي لم تجد من ينقذها؛ تُمسخُ إلى (دودة)!

وفي عالمٍ لا يحفل بالحياة والوجود كقيمة تستحق التقدير لذاتها، فإن الدودة(الإنسان) التي لا يُنتفعُ منها تصبح عبءً يجب إيجاد طريقة للتخلص منه.. 

تلك الطريقة التي ابتكرها العقل (الأخت في قصة كافكا) وأيدتها السلطة (الأب في القصة)  يجب أن لا تزعج الروح الإنسانية (الأم في القصة).. 

وشيئا فشيئا يبدأ العقل (الفاتن) في فرض سيطرته على العائلة(العالم) حتى إن العاطفة لتستسلم في النهاية  للواقع، الذي فرضته السلطة تحت إغراء العقل.

إن الحياة التي لا تكفل للإنسان كرامته، لهي حياة إلى البهيمية أقرب منها لأن تكون حياة (إنسان) وجِد على هذه الأرض (خليفة لله).

وبعد، فلعلك فهمت الآن ، ما كنت أقصده من إيراد قصتنا في القارب؟!

إن تسلل الحياة الغربية (الإستهلاكية) إلى حياتنا أصبح واقعًا يتغولُ يومًا بعد يوم، تراه واضحًا في كل جوانب حياتنا التي قد تجاوز يومًا ما حد المعقول- لأنها مجتمعات لا تعرف العقل- في تسفيه (الإنسان) المهمش أساسًا  في مجتمعاتنا (العربية) منذ قرون خلت!

همسة:

“لم نوجد في هذه الحياة لنتقاعس؛ ولم نُخلق لنحترق”