ياسمين غُبارة
ياسمين غُبارة

د

لم أكن أعلم!

إلى أسرتي الكبيرة.. إلى عالمي الصغير.. إلى العمر الذى كان.. إلى كل ذلك الود والحب والشمل الذى لم يكن سهلًا أبدًا أن يلتئم على مدى السنين بهذا الشكل، ولكنى لم أكن أعلم!..

لم أكن أفهم بعض الطباع وبعض المواقف، لم أكن أعلم كمَّ المحاولات والتغافلات التى كانت تحدث وراء الكواليس حتى يبدو كل شىء إلى حد ما أمامنا نحن الصغار على ما يرام. 

احترفت التصنيفات فى عمر المراهقة، وانقسم إحساسي للأبيض والأسود، فهذا حاله يروقنى، وهذا حاله لا يروقنى، هذا شخصيته تعجبني، وهذا شخصيته لا أستطيع ترجمتها  ،هذا أُقبِل عليه فهو خالي الحنون، وهذا أخاف منه فهو الخال العصبى.. هذه عمتى الضاحكة، هذه العمة المتوترة، وها هى عمة أخرى شاردة..هذا زواج يبدو ناجحًا، وآخر يسوده توتر واضح .

لم أكن أفهم ولكنى كنت أشعر، واكتشفت فعلًا أنى لم أكن أعلم شيئًا، لم أكن أعلم أن غالبًا من يبتسم  منهم هو يُخفى الكثير من الآلام، وذلك الدخان المُتهادي من الشرفة هو شخص  يشعر اليوم  فى ذلك الجمع  ببعض الغربة، لم أكن أعلم أن هناك من تقوم بتجهيز السُفرة ورص الأطباق، وفى نفسها أمنية واحدة: أن تجد  بين الطبق والآخر بعض الرضا والسلام، لم أكن أفهم ما وراء ” دردشة هادئة جمب البوتاجاز وعلبة أكل بتتحضّر للي مجاش ” ، لم أكن أعلم أنه حتى من يمزح؛ هو يحاول أن ينسى شيئًا ما بطريقته الخاصة، وهناك الحالم الهادىء الغامض الذى  يجلس دومًا بجانب أمه،  لم أكن أعلم أنه  يتمنى أن يشكو لها ولكنها تبتسم له كالغريب، كانت تعرفه يومًا ما أكثر من نفسه، ولكنها الآن لا تعلم من هو، ولماذا هي هنا وماذا تفعل؟!  ..

لم أكن أعلم أن كل الكبار فى بيت جدتى، الأوتاد الذين خَلَقوا لنا هذا  العالم، هم فى الحقيقة أضعف كثيرًا منّا – نحن الأطفال -، فنحن نركض ونلعب بخِفّةٍ  فى لحظةٍ  لا نحمل فيها  ماضيًا، ولا نفكر فى مستقبل ..

لم أكن أعلم أن الدنيا مسرح، واجتماعنا مسرحية، وما وراء الكواليس هو الحقيقة..  لم أكن  أعلم أن الكبار لديهم عالم مختلف له قواعد ومشاعر ونتائج لا علاقة لها بالأسباب،  وأن الفِكر ضيف يتم إكرامه بالصمت والقهوة، وأنهم ولو ضحكوا فهم بالتأكيد يبكون بعدها فى مكانٍ ما.. لم أكن أعلم أن أَحبّتى الكبار لم يكونوا يمرون بيومٍ سىء حين يوجِمون، ولم يكونوا أيضًا يمرون بيومٍ لطيف حين يمزحون، وإنما هم يعانون، ولكنهم كانوا بيننا دائمًا ومازالوا صامدين.