هبة الله حمدي
هبة الله حمدي

د

“الموت أقلُّ ضرر ممكن”.. كيف يصير القتل رحيماً!

“الموت أقل ألماً “،هكذا يرى الداعون لما يسمى بالموت الرحيم أو السماح بالموت ،في السطور القادمة سنسلط الضوء على هذا المصطح  ونحاول التأصيل لعوامل ظهوره وتزايد الرغبة فيه.

يقصد بالقتل الرحيم الفعل الطبي المُتسبب في وفاة مريض غير قابل للشفاء بهدف تقصير معاناته،تتم هذه العملية بواسطة طبيب وتحت إشرافه كاملاً  ..

في عالمنا الحديث تعتبر هولندا هي أول من شرعت القتل الرحيم في 2002 إذ صرح وزير الصحة وقتئذ “يُسمح للمريض إنهاء حياته بكرامة بعد تلقي كل الرعاية المُلطفة الممكنة ” تلتها عدد من الدول الأخرى وإن كان الأمر لا يزال غير مقننٍ سوى في دول قليلة .

كيف يتزايد طلبُ الموت ،وجهة نظر :

 بالطبع كان ثمة أمراض مُستعصية منذ قديم الأزل ،وبعض المرضى كان قدرهم المعاناة دون أمل ،لكن ومع التقدم الطبي وتطور أساليب الجراحة وتعدد الأجهزة الطبية كالتفس الصناعي وما شابه ،صار بالإمكان الحفاظ على حياة البشر إثر حادثةٍ أو مرضٍ مزمن أو ما شابه بصورة أكبر بل وبات بالإمكان عمليا إعادة امرئٍ مات -أي توقف قلبه عن النبض لدقائق- بإنعاش قلبي .

في ظل هذه المُستحدثات صار بالإمكان الحفاظ على الحياة أو إطالة عمر إنسان كان متصوراً أن يموت  لكن حفظ الحياة لا يستلزم صون جودتها أو على الأقل إبقاؤها كما كانت بل قد تتضمن إعاقات أو آلاما أو مشاكل صحية ستلاحق المريض وتلازمه خلال عمره ،من هنا تكشفت الحقيقة وتجلى السؤال هل المحافظة على الحياة أيا كانت أمرٌ إيجابيٌ على اعتبار أن الحياة أسمى ما يملكه المرء أم أنه ثمة أوجاعٌ الموت أهون من مكابدتها وترك المريض يموت في سلام أجَل من تركه على شفير هاوية لا هي حياة كاملة ولا انتقالٌ كامل؟

إننا إذ نحاول التأصيل لبُروز هذا المصطلح ،يلزمنا أن نقر بأن التطور الطبي الحادث هو ما خول مساحة متزايدةٍ  لإنتشال أرواح كانت لتفارق الحياة في عصر سابق أو في ظروف أخرى ،انتُزعت من براثن الموت وكتب لها عمرٌ جديد كما يقولون ،ومن هنا ارتأى كثيرون خصوصا من مُؤيدي الموت الرحيم أنه وبما أن حفظ الحياة نجم عن تطور طبي ولا يتم دوماً برغبةٍ صادرة عن المريض أو ذويه فلِم لا يصير الموت خياراً بل وحقا من حقوقه “فلولا أجهزتكم ما بقي حيا” وعليه قد يصير الموت الذي لا يستلزم في حالات مرضيةٍ عدة سوى انتزع أجهزة أو سحب أدوية* حقا مكتسباً للمرضى .


الذي طلب القتل الرحيم ورُفض طلبه فأقدم عليه بنفسه

الأطفال والقتل الرحيم :

في الآونة الأخيرة شرَعت هولندا السماح بإنهاء حياة الطفل الميئوس من شفائه طبيا بموافقة والديه ،ولاقى الخبر تداولا كبيرا وبين مؤيد ومعارض جال الحديث وصار تكوين وجهة نظر صائبة أمرا ليس من السهولة بمكان .

كإختصاصيةٍ  للتأهيل الطبيعي للأطفال ذوي الإعاقة كحالات الشلل الدماغ أو ضمور المخ وحالات مشابهة يمكنني أن أقول بأننا الآن بمقدورنا حفظ حياةِ مريض الشلل الدماغي ،وهو تلفٌ أو عطبٌ في خلايا المخ ناتج عن نقص وصول الأكسجين الضروري لعمل الخلايا وإبقائها حية ،قد يحدث هذا لأسباب كثيرة منها ما هو أثناء الولادة ومنها ما هو بعده ،يختلف الضرر الذي يلحق بالخلايا ففي حالات قد يَطال غالبية المخ وفي أخرى قد يُصيب أجزاءاً معينة من الدماغ يمكن إصلاح الضرر عن طريق جلسات العلاج الطبيعي والأدوية المنشطة وغيرها ليصير تلافي الإعاقة والضرر ممكنناً .

يجدر الإشارة إلى أن حالات الشلل الدماغي تزداد بالتقدم العلمي وليس العكس ،والذي قد يَعدهُ البعض مفارقة لكنها الحقيقة  فكما أشرنا  أن وجود الحضانات والأجهزة ساعد على حفظ حياة المواليد  وإن كان – في الغالب- يُخلف ضرارا كبيرا في الدماغ وباعتبار أن الدماغ هو محرك الجسد الأول فإن الإعاقة هي قدرُ هؤلاء الأطفال ..

ثمة مشاكل أُخرى تحدث للأطفال تخلف عطبا دماغيا كارتفاع الحرارة المُتكرر الناجم عن سقمٍ كحمى البحر المتوسط خصوصا في حال تأخر تشخيصه ،وكحادث نجم عنه توقف التنفس لفترة قد تكون هذه الحوادث بسيطة في ظاهرها كابتلاع شيء يتوقف في حلق الصغير يمنع الهواء ويُحدث التلف إن لم يكن الوفاة الوقتية ..

يصير شغل الأطباء الشاغل هو انقاذ حياة المريض صغيرا كان أم بالغا ،أحيانا يصعب تقدير الآثار الجانبية المتخلفة عن الإصابة وأحيانا يصير معروفاً لدى الأطباء تفاصيل الإعاقة أو الإعتلال والذي يصل في حالات كثيرة للغيبوبة أو الحالة الخُضرية التي لا يربط فيها المريض بالحياة سوى خيط الهواء الداخل لرأتية وقد يكون بمساعدة جهازٍ تنفسيٍ أيضا ..

وعلى كل ما سبق أُعيد تعريف معنى الحياة ووضع مقاييس جديدة للموت فانعدام الحركة أو النفس لم يعد مؤشرا حتمياً للموت .

والمال عاملٌ أيضا :

إن التكلفة المادية للأمراض المستعصية التي لا يُرتجى البرء منها كان له دور أيضاً في اقرار الدولِ للقتل الرحيم ،وإذ تزداد مع الوقت رقعة الدول المشرعنة لحق المريض في الموت ،لا يزال الوطن العربي والإسلامي يقف في مجمله موقف المعادي لفكرةٍ كتلك على اعتبار أنه اعتراض على الأمر الإلهي ،متغافلين أن امتداد حياة عديدين اليوم يفرزه الإزدهار الطبي في المقام الأول الذي ودون أي جدال ساهم في إطالة متوسط أعمار البشر رغم كل ما يحمله جسد البشرية من أسقام ،ولا زال الطب يسعى لتحسين جودة الحياة توازيا مع حفظها بالقدر الممكن .

هل يجب على الأطباء حين تصير الحياة عسيرة أن يتوقفوا عن إمداد المريضِ بلوازم الحياة الإصطناعية إن صح التعبير ،لكن ستطفو مشكلة أخرى هي أنه عند أي حد سيتم اعتبار الحياة عسيرة إن تقرر أن غياب الوعي الدائم موتا ينقصه فصل جهاز ،فماذا عن الأطفال الذين سيُغذون بأنبوب طوال حياتهم أو حتى في حالات أخرى سيبتلعون طعامهم  لكنهم سيصيرون ولبقية حياتهم عاجزين عن رفع رءوسهم مثلا أو التبول بشكل طبيعي ما الخط الفاصل الذي سيُجزَم عنده ضرورةُ إنهاء العذاب والسماح بموت رحيم وهل يصير الأمر في يد الوالدين أو الأقربين في حالة البالغين ؟

سيظل جدل السماح بالموت مطروحا ،ومع التقدم افي شتى المجالات ستطلُع كل يوم دعاوى جديدة ،لكن الأهم دوما أن نسمح بالنقاش وتقبل المُستجدات الوافدة وتقييمها من كل أبعادها ورؤية الصورة كاملة غير مبتورة .

* يعتبر هذا النوع من الموت الرحيم سلبيا أو فعلا غير مباشر ،وهو على عكس الإيجابي الذي يقوم فيه الطبيب بإنهاء حياة المريض مباشرة بحقنة قاتلة مثلا  بمبادرة منه أو بناءاً على طلب رسمي