فادي عمروش
فادي عمروش

د

تأملات في كتاب وداعاً للأشياء

يُبهرنا الكاتب الياباني “فوميو ساساكي” في ثورةٍ سلوكيّةٍ تجديديّةٍ ببعض الأمور، ويدهشنا بالأفكار غير المألوفة، ولعلّ من أبرز ثمرات هذه الأفكار المذهلة رفع مُعدّل الإنتاجيّة العامّة للفرد، وزيادة شعوره بالسّعادة أيضًا. تخيّل معي -ونحن نعيش في عالمٍ مُتسارع التّطور، ويضجُّ بالأشياء الرّائعة- كيف يكون الابتعاد عن هذه الأشياء طريقاً من طُرق النّجاح والسّعادة؟ وفكّر معي: كيف ستكون السّعادة في الابتعاد عن أدوات السّعادة؟!

في كتابه “وداعًا للأشياء” يضع الكاتب بين أيدي القرّاء جملة من خبراته الشّخصيّة من خلال جمعِها في مكانٍ واحدٍ؛ لتشكّل ما يُعدّ مذهبًا مُتكاملًا، ودليلًا للعيش ببساطةٍ، بمنهجيّةٍ، وحرفيّةٍ رائعة.

هوس تجميع الأشياء

يولد الإنسان ويكون في أقصى درجات البساطة، فهو لا يمتلك إلا الحاجات الشّخصيّة الضّروريّة، ولكن كُلّما تقدّم في العمر يتأثّر بمفاهيم المُجتمع والبيئة من حوله، فيتولّد بعد ذلك عنده شعورٌ وتصوّراتٌ جديدةٌ، تربط مفهوم السّعادة بالمال، فيتشكّل ما قد نطلق عليه تجاوزًا “هوس تجميع الأشياء” على اعتبار أنّ هذه الأشياء ستكون من أسباب سعادته، أي كلّما زادت أشياؤه، وممتلكاته، زاد شعوره بالرّضا المعيشيّ، وهذا يؤدّي بالطّبع إلى الخلط بين المفهومين: مفهوم السّعادة، ومفهوم المال، لدرجة أنّ بعض النّاس يتخلّون عن أحلام عظيمةٍ في سبيل الحصول على أشياء صغيرةٍ، ويدفعون ثمنها مسرورين مهما كان مُرتفعًا، لأنّهم يُدركون أنّها ستجلب لهم السّعادة لاحقًا، غير مُدركين أنّ شعور الفرح النّاتج عن عمليّة الشّراء تلك هو مجرّد شعورٌ عابرٌ، وسيزول تدريجيًّا، وهذا ما يُسمّى بالمنظور المُتطرّف.

إنّ البساطة في التّفكير تخفّض منسوب الرّغبة في هوس الشّراء المجنون، وبالتالي تُكسب الشّخص مزيدًا من الرّاحة، والهدوء الدّاخلي، فبدلًا من أن يكون الشّخص متوترًّا، ومهووسًا في شراء الأشياء، سيكون في حالةٍ من الرّاحة، والرّضا، كما وتساعد في تحرّر العقل في سبيل التّركيز على أشياء أكثر أهمّيّة نتيجة التقليل من اقتناء الأشياء، فلا يتشتّت في التّفكير بها، ولا في مراقبتها، إنك حينما تخفض عدد الأشياء في منزلك، أو عدد الأشياء التي تفكّر في شرائها دون سببٍ حقيقيٍّ، وعمليٍّ، ستوفّر المال أيضًا، ولن تحتاج إلى منزلٍ كبيرٍ مثلًا!
أترى؟ بعض الخسارات ربح!

التقلّل وفن البساطة

مفهوم الزهد أو التّقلل أو فن البساطة -سمّه ما شئت- الذي أشار إليه الكاتب وسمّاه الـ ” Minimalism” تم تعريفه في تقريرٍ   تلفزيونيٍّ لُخّص فيه الكتاب بطريقةٍ رائعةٍ: ” التّقلّل من اقتناء الأشياء هو أن تعيش بأقلّ قدرٍ ممكن من الأشياء، من خلال الاحتفاظ بالضّروريِّ، والتّخلّص من كلِّ ما هو ليس بضروريٍّ”

أصبح هذا المفهوم شائعًا في اليابان في أوائل عام 2010، بعد أن أيقظ زلزال شرق اليابان الكبير الكثير من  النّاس على احتماليّة تدمير أشيائهم، خلال كارثةٍ طبيعيّةٍ ضربت بلادهم في ذلك الوقت، كما وساعد انتشار التّكنولوجيا بشكلٍ إضافيٍّ في تطوير هذا المفهوم، إذ أتاحت فرصة الاحتفاظ بنسخٍ رقميّةٍ من الممتلكات، دون الحاجة إلى الاحتفاظ بها بشكلٍ مادّيٍّ، ومحسوسٍ، فمثلًا إذا كان لديك بعض الأشياء التّذكاريّة، وتشغل مساحةً كبيرةً من منزلك، يمكنك التقاط صورٍ لها، ومن ثمّ التّخلّص منها، وتوفير هذه المساحة لأشياء أخرى أكثر أهمّيّة.

عند تخزين الذّكريات رقميًّا، من الضّروري استخدام أدواتٍ جيّدةٍ تساعد في الأرشفة، وتمنع تدمير وضياع تلك الذّكريات عن طريق الخطأ، فيجب تجهيز ثلاث نسخٍ من كلِّ ملفٍّ مهمٍّ في مواقع منفصلةٍ على سبيل المثال، يُمكن تخزين الملفّ على جوجل درايف، وعلى محرّك أقراصٍ محمولٍ، وعلى جهاز كمبيوترٍ محمولٍ شخصيٍّ، وسيؤدي الاحتفاظ بنسخ احتياطيَّةٍ منفصلةٍ من هذه الملفّات إلى منعها من الاختفاء في حال مسح السّحابة الرّقميّة، أو تلف محرّك الأقراص الثّابتة، أو أيّ سببٍ آخر.

كيف يُمكن التّخلص من فوضى تراكم الأشياء؟

من الضّروريِّ قبل التّفكير بكيفية التخلّص من الأشياء تحديد هدفنا من هذه الخطوة، ومعرفة ما لدينا، وما سنحتاج إليه لاحقًا؛ لذا يجب أن نبدأ من الأشياء الصّغيرة مثل القمامة، أو الأوراق المُتكدّسة التي لا نفع لها، وفي هذه المرحلة يجب أن يكون الإنسان متوازنًا، ومنظّمًا، وهادئًا، ويجب أن يضع خطّةً زمنيّةً للانتهاء، تُسهم هذه الخطّة في ضبط، وتهذيب عادات الشّخص اليوميّة، وتمكينه تدريجيًّا من التّخلّي عن الأشياء غير اللازمة فيما بعد، وتعويده على الحياة البسيطة غير المُعقّدة، ولا يجب أن تكون الفترة الزّمنيّة لإنجاز هذه المهمّة سريعةً جدًّا، فمثلًا لا يجب أن يضغط الانسان نفسه أبدًا، ولا أن يسرعَ في التخلّص منها في جلسةٍ واحدةٍ، وإلا ستكون النتائج عكسيّة.

على صعيد آخر توضّح الكاتبة “ماري كوندو” في كتابها “سحر التّرتيب” أنّ من يُريد ترتيب منزله، والتّخلص من الأشياء غير الضّروريّة فيه، يجب أن يضع خطّةً زمنيّةً لإنجاز هذه المهمّة، ويجب أن تكون المدّة المُختارة مُحدّدة، وغيرَ طويلة الأمد، فمثلًا يُمكن تخصيص نصف عامٍ للانتهاء من كلّ الأمور، فإن لم يتم تحديد موعدٍ زمنيٍّ واضحٍ، والالتزام به؛ ستبقى الدّائرة مفتوحةً، وبالتّالي يُمكن أن يميلَ الشّخص إلى تأجيل المَهام، أو قد يُصاب بالملل، وقد يؤدّي ذلك مع الأيّام إلى أن يقلّ الحافز الدّافع نحو التّغيير،  كما قد يُسهم في خلق شعورٍ من التّردد حيال فكرة التّخلّي عن الأشياء.

تأثير العامل النفسي على هوس جمع الأشياء

لا شكَّ في أنّ للعامل النفسي أثراً في التحكم بالأشياء إذ يُسوّغ البعض تمسّكَه بالأشياء من منطلق أنّ في التّخلّص منها هدراً للمال، وربّما يسأل نفسه سؤالًا: “كيف أتخلّص من خِزانة ملابسي -مهما كانت قديمة، ومهترئة- وأنا الذي دفعت مبلغًا ماليًّا كبيرًا عند شرائها منذُ سنوات؟”.

من منّا لم يجرّب يومًا التّخلص من أحد الأشياء، وكان جواب والدته له: ” لا ترمه! قد تحتاج إليه في المستقبل”؟ يرى البعض أنّ التّخلّص من الأشياء بمثابة إسرافٍ، وعدم تدبير، فربّما لهذا الشّيء فائدةٌ في المُستقبل، ويقنعون أنفسهم بأن التّمسك بها الآن، والاحتفاظ بها، سيجنّبهم شراءها من جديدٍ في المستقبل.

يلعب الحنين أيضًا دورًا مهمًّا، ورئيساً في الحرص على الاحتفاظ بالأشياء القديمة، خصوصًا إن كانت هدايا من أناسٍ نحبّهم، إذ يميلُ البشر إلى التَّفكير في الماضي غالبًا، فمُمتلكاتنا التي حصلنا عليها في الماضي، وما زالت موجودة لدينا، تجعلنا نشعر بالرّضا؛ لأنّها تستحضر ذكرياتٍ إيجابيّةً تُسعدنا، ذلك أنّ التّمسك بعنصرٍ عاطفيٍّ يمنح الإنسان شعورًا جميلًا جدًّا، ولا ننكر جميعنا أنّنا نبني علاقةً قويّةً مع أشيائنا، وخصوصًا إن كانت قديمة، ومع ذلك، فإنَّ هذه السَّعادة لا تدوم، والتّوتر النّاجم عن الفوضى النّاتجة عن تراكم هذه الأشياء حولنا، وتكديسها، سوف يفوق أيّ فائدةٍ يمكن أن يوفّرها الحنين إلى الماضي، أو الشّعور بالسّعادة النّاتجة عن الارتباط مع هذه الأشياء.

إنّ أي شعورٍ ناتجٍ عن رغبةٍ عاطفيّةٍ في التمسّك بالأشياء هو شعورٌ مؤقّتٌ، وسرعان ما يزول كما أوضحنا سابقًا، بل هو عذرٌ غير منطقيٍّ للاحتفاظ بهذه الأشياء عديمة الفائدة، فأي فائدةٍ نفسيّة تعود على الشّخص ستكون عابرةً، وستزول بمجرّد ملاحظته للفوضى العارمة التي تعمّ المنزل.

أثر التقلّل في حياتنا

إنّ الاحتفاظ بهذه الأشياء المتراكمة يجعل تغيير السّلوك الشّخصيِّ أمراً في غاية الصّعوبة، فغالبًا ما تتأثّر العادات بالبيئة، مما يجعل التّغيير الذّاتيّ صعبًا وحده دون تغيير البيئة المحيطة، فعلى سبيل المثال، قد يجد المدخّن صعوبةً في الإقلاع عن التّدخين إذا لم يتخّلص أوّلاً من جميع منافض السّجائر، والولّاعات، وعلب السّجائر القديمة في المنزل.

إنّ ترك هذه الأشياء في جوار الشّخص يؤدّي إلى سهولة العودة إليها، ونسيانه لنيّته في الإقلاع عن التّدخين، فالتّخلص من الأشياء الزّائدة في المنزل، يمكن أن يكسر الحلقة، ويجعل من السّهل إنشاء روتينٍ جديدٍ أكثر صحّةٍ.

بعد أن تعرفنا إلى مفهوم التقليل في حياتنا، وأهمّيّة العيش ببساطة، نستطيع الآن أن نفهم تمامًا سلوك بعض المشاهير النّاجحين، فمثلًا “مارك زوكربيرج” مؤسّس فيسبوك، الذي لطالما جعلنا نتساءل، ونستغرب من ارتدائه  اللّباس ذا اللون الرّمادي نفسه دائمًا، فنراه في جميع المؤتمرات، وفي الصّور الرّسميّة، وغير الرّسميّة يرتدي لباسًا متشابهًا، هل يعني ذلك أنّه غير أنيقٍ؟ أو أنّه لا يمتلك المال الكافي لشراء لباسٍ جديدٍ ليظهر بمظهرٍ جديدٍ، ومختلفٍ في كلِّ مرّة؟!

حتمًا لا، ولنترك له توضيح السّبب: حيث أكّد أنّه آثر التّركيز على حياته، والاهتمام المستمرّ بعمله أكثر من التّركيز على الوقوف أمام خزانة ملابسه كُلّ يوم؛ ليُفكّر ماذا يجب أن يرتدي، وأيّ لونٍ عليه أن يختار!.

وهكذا يقدّم لنا كتاب (وداعاُ للأشياء) ثروة معرفية قيمة، تعيننا في مسيرتنا القادمة في الحياة ، وتترك بصمتها على قراراتنا اللاحقة …

إنها مجموعة أفكارٍ، وتلميحاتٍ عظيمةٍ فيها خبراتٌ جاهزةٌ، ومُعدّةٌ بشكلٍ رائعٍ لتنفعنا، وبمجرّد قراءتها نرى أنّها تُجبرنا جميعًا بطريقةٍ أو بأخرى على إعادة النّظر في سلوكنا، وفي طريقة عيشنا، لنُعيد تنظيم أولويّاتنا، واستغلال أوقاتنا، واستثمار مساحاتنا أفضل استثمار، ممّا سيؤدّي بالطّبع إلى حياة أكثر خفّةً، وسعادةً، ونجاحاً.