بندر الحربي
بندر الحربي

د

حيثما ذهبت فاذهب بكل قلبك!

للفيلسوف الصيني كونفوشيوس مقولة لا تزال تتردد منذ آلالف السنين، وهي: “حيثما ذهبت فاذهب بكل قلبك!”، وتعني أنك إذا عقدت العزم على أداء أمرٍ ما فاملأ قلبك حبًا وثقةً بالنجاح.

كلما سمعتُ كلمة العزيمة، تذكرتُ الممثل توم هانكس، في فلم (هائمٌ في البحر)، فهذا الرجل بعد أن سقطت به الطائرة وقُذف في جزيرة نائية في قلب المحيط وضع حدًا لحالته الصعبة، وعزم على إلقاء نفسه فوق كومة من الأخشاب ليتهادى فوق أمواج البحر إلى أن وصل إلى بَرِّ النجاة.

لحظة توم هانكس الحاسمة في المشاهد الأخيرة من الفلم، هي عزيمته على اتخاذ قراره الأخير الذي تجاوز به مشاعر التردد والإحباط، وبالتالي تجنب الانزلاق إلى عدم المبالاة وشرود الذهن فالانكسار، وقد أوصلته عزيمته تلك إلى النجاة من الهلاك المحتوم.

كثير من مشاهد الحياة الصعبة التي نواجهها أقل مَأساوية من قصة توم هانكس السينمائية، كما أن العزيمة ليست محصورة في مواجهة الصعاب فقط، بل هي أيضًا وقودٌ للطموح أيضًا، ويمكن أن نقول إنها جزءٌ من كلِ الأمور كما تذكر الحكمة العربية التي حملت جوامع الكلم “إن مفاتيح الأمور العزائم”، حيث لا يوجد تراث أسهب في الحديث عن هذه السمة وعشاقها بمثل ما جاءت به أدبيات التراث الإسلامي والعربي.

إن العزيمة قرار شخصي، يُشحذ ويتطور باستمرار، كما تقول عالمة النفس أنجيلا داكورث، في كتابها الصادر حديثًا (العزيمة: قوة العاطفة والمثابرة)، الذي خصصته لشرح هذه السمة النفسية بمختلف أبعادها، وأثبتت بعد إجراء دراسات ومقابلات شخصية مع عديد من الأشخاص الذين حققوا نجاحات في الحياة الشخصية والمهنية، أن السمة المشتركة التي جمعت بينهم هي العزيمة، تلك التي أثبتت المؤلفة أن أهميتها تتفوق على الموهبة.

ومما يدلل على هذا الأمر، تجربة اجتماعية قديمة، أُجريت على طلاب مدرسة صغار، حيث طُلب منهم التالي: “من كان يريد قطعة واحدة من الحلوى يأخذها الآن، ومن يرغب في قطعتين فسيأخذهما في نهاية اليوم الدراسي”، فاندفع أغلب الأطفال لأخذ حصتهم الفورية من الحلوى، ما عدا مجموعة صغيرة أجَّلت المكافأة لتحظى بها جَزِلة في النهاية، وبعد سنوات طويلة وجد القائمون على هذه التجربة أن أطفال المكافأة المؤجلة أصبحوا أكثر نجاحًا في حياتهم الشخصية والمهنية، وهذا ليس بغريب لأن من لديه القدرة على تأجيل المكافأة – وهي الميزة التي اتفقت دراسات اجتماعية حديثة كونها ميزة الناجحين – يتمتع بعزيمة قوية في كبح المشاعر التي توصف بالمشاعر السهلة.

يمثّل التعليم جزءًا كبيرًا من فلسفة كونفوشيوس، والتعليم هو أفضلُ مثالٍ لمعرفة دور العزيمة والمثابرة، فأغلب الناس لا يصفون مشاعرهم أثناء التعلم بالمشاعر السهلة المريحة، لأنها عملية طويلة الأمد بطبيعتها، وتتطلب جهدًا كبيرًا، ولأن المتعلم في مواجهة دائمة مع مواقف ومعارف غير مألوفة لديه، ولهذا نعود إلى نصيحة كونفوشيوس القديمة الجديدة للمتعلم: “لا يهم أنك تمشي ببطء، ولكن المهم هو ألا تتوقف”.

*القافلة الأسبوعية (معدل).