أسامة حمامة
أسامة حمامة

د

فوزية

كانت ‘فوزية’ فتاة جميلة، أو لأكون منصفًا، كانت تعرف كيف تضع الأصباغ ومساحيق التجميل على وجهها لتبدو حسنة المنظر، فقد تعلّمَت الكثير من بعض زميلات الدراسة النسويّات، منذ هرعت لخلع الحجاب، وذلك بعد انقضاء عامها الأول فقط في الجامعة.

لم أستغرب أبداً التحول الجذري الذي لحق فكرها ومظهرها، لأن سواها كن كثيرات، ممن انسلخن عن الثوب الذي قدِمن فيه، واستبدلنه بعد فترة وجيزة برداء “الحرية” و”الحداثة” المزعوم، وكن يعشقن تسمية أنفسهن بـ “الثائرات”.

الذي استرعى عجبي حقاً (وليس إعجابي) في ‘فوزية’، هو قدرتها الكبيرة على التلوّن لما يخدم مصالحها، كانت تختار دائماً الكفة الرابحة في علاقتها مع المحيطين بها. قد ترى ثلة من الناس ذلك تجسيداً لفكرة “الذكاء الاجتماعي”، لكنني أجد الأمر لا يعدو كونه امتدادًا لأشكال النفاق والتملق البسيطة (والمفروضة أحياناً) التي عرفناها صغارًا، كالذهاب كرهاً لحصص “المراجعة” أيام الابتدائي أو “الساعات الإضافية” أيام الثانوي، طمعاً في نقطة سهلة، كان يمنحها معلم دنيء عهِد الابتزاز والمقايضة سبيلاً للكسب.

بحلول 2011، وجدت ‘فوزية’ نفسها مضطرة لتوظيف كل خبرتها في المداهنة والتزلف لتعويض ما فاتها من الحصص والمحاضرات، التي كانت تتغيب عنها مع مجموعة من زميلاتها، من أجل حضور اجتماعات مغلقة أو المشاركة في مظاهرات، كانت تنظمها حركة احتجاجية ذائعة الصيت في تلك الحقبة. وكيف لا تنضم لحركة ستفتح لها أبوابًا كانت مجرد حلم لطالبة في مثل وضعيتها الاجتماعية؛ سفريات مجانية داخل وخارج البلاد، لقاءات مع شخصيات عامة واسعة النفوذ… وبقشيش تستعين به على مصاريف التزين والخرجات، بل إن أحد “المساندين” تكفّل بنقلها من الحي الجامعي إلى “بيت المعرفة”، الذي كان إقامة طلابية خاصة، لا يلجها عادة إلا الميسورون.

جربت ‘فوزية’ كل شيء، اختلقت رواية مرض أحد والديها وتحججت بها لتبرير غيابها المتكرر عن الفصل بعد أن استنفدت الشهادات الطبية المزورة التي كانت تأتي بها، استغلت نهايات الأسبوع لزيارة أساتذتها لدى مشاركتهم في ندوة أو توقيعهم لكتاب، تحضر لهم باقات ورد وتلقي إلى مسامعهم كلمات إطراء مبتذلة، وتحرص على الوقوع في مرمى بصرهم بالجلوس في المقاعد الأمامية متى سنحت الفرصة.

كانت ‘فوزية’ ماكرة جداً، تستميل إليها من تستطيع استغلاله ولو مؤقتاً، ثم تنبذه خلف ظهرها، كان يخيل لها أنها تنتقم لنفسها من خيانة المجتمع، بدءاً من أبيها الذي وعد بتزويجها من ابن عمها الذي تمقتُ بشدة، فور إتمامها الدراسة. كانت تخاطب الأساتذة بما يحبون، وتعرف كيف تستهدفهم، كل حسب شخصيته، تجلب لهذا هدية؛ وتطلب من آخر تزكيتها عند ذاك؛ تدعو هذا إلى احتساء فنجان قهوة؛ وتستدرج آخر إلى شرب كأس نبيذ ليلية، قد يدعوها بعدها إلى إكمال السهرة في منزله…

خطط ‘فوزية’ الجديدة جعلتها غير شغوفة بالدراسة، لكنها مع ذلك أرادت النجاح فيها بأي وسيلة ممكنة، لا لسبب إلا إسكات أفواه أسرتها المحافظة، التي أذعنت على مضض لابتعادها عن الدّار من أجل الدراسة؛ في ظل عدم وجود جامعة في مدينتها الأصلية؛ وهي لن تتحمل سيناريو العودة إلى كنف العائلة وبيئة من التوتر والضغوط لطالما تشوقت للرحيل عنها؛ كانت تحقد منذ صباها على بنات عمها اللائي لا يكابدن العوز مثلها، ثم أصبحت تحقد على صديقاتها الغنيات وتحقد على هزالة المبلغ الذي ترسل لها أسرتها نهاية كل شهر أو شهرين، وكان لزاماً أن تجد طريقة مجزية وسريعة تشبع بها احتياجات نمط عيشها، الذي أضحى مكلفاً منذ سولت لها نفسها تبني قيم “العصرنة” واتخاذ مبدأ “عش كل يوم من حياتك كأنه اليوم الأخير”.

كنت أصادف ‘فوزية’ أحياناً في أَمْسِيَةِ السبت، عند ذهابي لشراء “المسمن” من مخبزة قرب محطة “القامرة” للحافلات، كانت تسافر مرغمة إلى المنزل على فترات متقطعة، تفعل ذلك لطمأنة أهلها وتسويغ وجودها في المدينة، تجر حقيبة خفيفة وقد غطت رأسها وارتدت نظارة سوداء، ملتحفة بإزار طويل يشبه واحدًا كان يكسوها قديماً، وكنت أتساءل في كل مرة ألمحها مسافرة إن كانوا سيكتشفون الوشم الذي وضعت أعلى خصرها، فقد كانت تمعن في إبدائه بارتداء القصير من الثياب حتى في الأوقات الباردة.

مضت أيام عديدة اندثر فيها أثر ‘فوزية’، لم أقابلها قرب المحطة ولا وجدت لها خبراً في الجامعة، تناسلت الروايات وتضاربت الفرضيات حول اختفائها، البعض قال إنها تزوجت ورجعت لأهلها، والبعض الآخر تمادى بترجيح مقتلها على يد أبيها لمّا عرف الحقيقة، بينما رجحت فئة متفائلة هروبها مع خليلها بعد أن توسطت لهما إحدى المنظمات الأجنبية.
_______________________
‘فوزية’
قصة قصيرة من نسج الخيال، مستلهمة نسبياً من تركيبة أحداث وأماكن واقعية؛ بالمقابل، جميع الشخصيات المذكورة غير حقيقية، وأي تشابه حاصل هو صدفة بحتة.