ريم بدر الدين
ريم بدر الدين

د

استمتعوا باللحظة… لا تصوروها!

بوجود الأجهزة (الذكية) في كل يد، من عمر السنة وحتى اللانهاية، يمكننا أن نقول أننا عرفنا المعضلة الرئيسية لدينا: إدمان استخدامها.

الجميع متهافت على التقاط الصورة. نقيم الحفلات الباذخة ولو كان هذا عبر اقتراض المال من الآخرين، والهدف من وراء هذا العناء الحصول على صورة باهرة على مواقع التواصل الاجتماعي.

صور الحفلة أهم من الحفلة، والطريقة التي سيستقبل بها (جمهورك) على الفيس بوك صورة زفافك أهم من الحياة التي اخترتها. وصور رحلتك السياحية أهم مما تستكشفه في تلك الرحلة وصورة طبق الطعام في المطعم الفاخر أهم من طعمه!

كيف سيراك الآخرون هو الهم الأوحد وذلك نابع من فكرة أصيلة لدينا وهي أننا نراقب بعضنا البعض بدلاً من تقديم إنجاز مفيد لنا ولغيرنا، وبالتالي يجب أن نعطي هؤلاء المراقبين صورة مشرقة وإن كانت مزيفة وتقريراً يثبت تحقق ما صنعناه حتى و إن شككوا فيه. نعطيهم صورة تختفي فيها التجاعيد وملامح الفوضى في المكان والطعم غير المستساغ أو النكهة المحروقة لأن الفلاتر الموجودة قادرة على محو كل ما هو غير مستحب أو تنحيته أو التعتيم عليه.

صور نستطيع أن نمارس من خلالها الكذب على أنفسنا وعلى الآخرين وأن نوهم أنفسنا أننا بخير وفي رغد ونعيم. نمارس الكذب على الاخرين ونشعرهم بأننا أفضل منهم، ثم يكررون هم ذات الخديعة ليكيلوا لنا الصورة بعشر صور.

الصورة وثيقة الأيام الماضية أصبحت لعنة القادم لأن ذاكرتها قصيرة ولا تصمد في وجه الفلاتر الذكية التي تمنح بنت الستين وجه ابنة العشرين. لذلك نعدم الصور الأقل إشراقاً مع أنها قد تكون الوثيقة الوحيدة لتثبت حالة ما أو عرض ما.

الصورة فقدت قيمتها واختفى التوثيق منها في عصر التواصل الاجتماعي حيث يريد الجميع أن يكون نجماً لامعاً وشاباً وسيماً وجسماً رشيقاً بالإضافة الى مكملات أخرى غير مصورة من مهارات يدوية و ثقافية وأدبية وقادرين على التحليل السياسي و النفسي والتدريب على تنمية المهارات الذاتية والبرمجة اللغوية العصبية وبالإضافة إلى مؤثرين اجتماعيين وفنانين وكتاب.

بل إن بعض الأشياء المستحدثة بدأت تطفو على السطح وتصوغ وعي جيل كامل من الشباب والمراهقين مثل الـ (فاشينستا) وغيرها. وما هو في الحقيقة الا تكريس لعصر التفاهة والتسول بالجمال والرشاقة، إنه نكوص فاضح نحو عصر النخاسة القديم لكن بأسلوب حديث وأصبح كل إنسان هو النخاس الحقيقي القائم على بيع نفسه!

منذ البداية، البداية البعيدة مع انطلاق الأطباق اللاقطة للمحطات الفضائية وكلما شاهدت البرامج التي تعتني بالطبخ وترتيب المنزل والديكور والاشغال اليدوية وتصميم الأزياء والتفصيل والتريكو والغناء والتمثيل وإلقاء الشعر الارتجالي وغيرها انتابني شعور غريب يشبه ذلك الذي انتابني بعدها لدى مشاهدة المزرعة السعيدة ومثيلاتها ذلك أن الواضح من سمات عصرنا هو القضاء على الابتكارية والمهنية والحرفية لصالح الآلية والأتوماتيكية.

عصر يحسب النتائج المحتملة ويبني على أرقام والنتيجة محققة لا لبس فيها وفي نفس الوقت لا روح فيها.  تصميم الأزياء والديكور يتم ببرنامج حاسوبي والطبخ يتم تعليمه في مطبخ براق وأنيق ويمكن تعلم خدع تصويرية لما أنتجته من طعام إن لم تكن صورته زاهية بالشكل الكافي لنشره على الملأ وهكذا أصبحت رغوة الحلاقة الرجالية أفضل حل لتصويرها كزينة قوالب الحلوى بدلا من الكريمة الحقيقية والغراء بدلا من الحليب والفواكه المغلفة بالشمع لتبدو عليها قطرات الماء المذهلة بدلا من تلك النظيفة الطازجة!

الأمثلة قد تطول في كل المجالات وفيما يعتقد المشاهد أو المتابع أو مستخدم وسائل التواصل أن رأيه هو من يصنع الحدث أو يعطي قيمة له يحتاج إلى أن يعرف أنه في الحقيقة ممول الحدث دون أن ينتبه، منذ البداية وحتى الآن، متابعة الفضائيات ومن ثم برامج التنافس المختلفة التي تحتاج إلى تصويت المشاهدين عن طريق رسائل الهواتف المحمولة التي تتقاسم أرباحها محطات البث وشركات الاتصال ثم وسائل التواصل التي تستخدم بيانات المشتركين أو المستخدمين لصالح المعلن الذي يدفع. 

يتوهم المستخدمون للهواتف الذكية ووسائل التواصل مثلما توهم متابعو الفضائيات قبلهم أنهم يدلون برأيهم بينما لا قيمة لرأيهم على الإطلاق وليس ثمة من يأبه لهم. والتصويت على موهبة فنية أو غيرها لا ينتهي بفوز الأجدر والأكثر موهبة وإنما يفوز الذي يحصل على نسبة التصويت الأعلى. في حقيقة الأمر من الذي حصل على الجائزة ليس أمرا مهما، المهم هو كمية الاتصالات والرسائل القصيرةُ التي حطت في جعبة القناة او المحطة او صفحة التواصل الاجتماعي.

جل ما يفعلونه هو تضخيم الصورة المثالية الجوفاء وفي ذات الوقت يحصلون على نتيجة أخرى. 

طرحت لعبة المزرعة السعيدة وأشباهها لقياس مستوى رغبتنا في الاعمار وهذه المرحلة انتهت بتسطيحنا ولفت انتباهنا الى امور تبدو بشكل ظاهري لا خطر منها لكن الحقيقة أنها تستولي على حياتنا معززة بالصورة. وعندما انتهت الحاجة من هذه الألعاب اتخذ الفيسبوك قراراً بإلغاءها كاملة!

حين اتخذت قرار اغلاق الفيس بوك الخاص بي للأبد تلقيت الكثير من الاتصالات التي تسالني عن السبب فقلت لهم انني بدونه أفضل و أنه يضيع وقتي و يضغط على أعصابي. لم يصدقوني وبعض منهم اعتبرني معتوهة لأغلق حسابا له عدد كبير من المتابعين. كان السؤال الشائع: هل تلقيت أية تهديدات؟ وعند إجابتي بالنفي لم يصدقوني أيضا!

لكنهم في هذا كانوا محقين فعلا. لقد تلقيت تهديدات لانجازي الشخصي ولسلامتي النفسية اذ لا يهمني من تزوج من وصور حفلات الزفاف الشخصية لافراد لا اعرفهم في الحياة. ولا صور حفلات اعياد الميلاد الباذخة وشعب بلادي اتخذ خط الفقر سقفا له، ولا تهمني كمية شهادات الدكتوراه الملونة من جامعات غير معروفة الاسم لأشخاص لا يحملون في الحقيقة درجة بكالوريوس.

ولا حتى الانتماء السياسي او الديني او العرقي لاي انسان. ولا صور النعي التي ترفق صورة الفقيد مع صورة صاحب الحساب الناعي. و لا البث المباشر للصور الذي يحرص نجوم التواصل على مشاركتنا إياه، بث مباشر لزفاف ولولادة و لحفلات التخرج و حتى الجنائز.

نعم جنائز ومجالس عزاء! فيصبح مكان إقامة العزاء فرصة للتباهي والرخام على شاهدة القبر فرصة لإبراز البر والمحبة تجاه الفقيد. كل هذا لا يهمني ولا يهم غيري أيضا.  يكفيني ان اتابع إنجاز الشاعر او الفنان او المبدع  بقطع النظر عن آراءه الخاصة وعن صوره الخاصة والعائلية،  نحن في الحقيقة نسيء  له لاننا بهذه الشراهة تجاهه  و تجاه تفاصيل حياته نعتبره كائنا مختلفا عن البشر فنجرده من إنسانيته و نستغرب ان تكون له حياة تشبه حيواتتا ولا نتوقع انه يعاني ويتالم مثلنا.

وليس من الضرورة التواصل معه شخصيا لأن هذه أيضا كذبة كبيرة تنطلي على الغالبية العظمى من الناس ويفضلون بعدها لو بقي القمر حلماً أبيض لا كرة صماء باردة تملؤها الحفر والتجاعيد. 

بعد قراري بإغلاق حساب التواصل الاجتماعي الوحيد لدي على الفيس بوك وبعد مرور أشهر طويلة من هذا الإغلاق كانت النتيجة.  زيادة معدل القراءة ليصبح ثمانين صفحة في اليوم واعتناء أكثر بالبيت والعمل، نوم منتظم، وتنسيق أفضل لمشاريعي الكتابية وفوق هذا كله راحة نفسية عميقة.

ومع أنني أعشق التصوير الفوتوغرافي كفن راق ورقيق ومرهف، فن يحتاج إلى أن تحاور المشهد، وأن تستمع لموسيقى المكان ، أن تتذوق الصورة، أن تتشربها حتى آخر قطرة ، أعشق هذا الفن الذي ظلمته كاميرات الهواتف النقالة ، لكن النصيحة الأثمن  التي يمكن أن أقدمها هي: استمتعوا باللحظة ولا تصوروها.