سامي الذبياني
سامي الذبياني

د

الجريمة والعقاب

أما وجهه فلا أحسب إلا أنه قطعة نثرية سوداء حزينة من كتاب العبرات، أو هو تجريدٌ لنص رواية كتاب “البؤساء”، وجه مظلم، حزين، كأنه أمواج بحر متلاطم يرتطم بعضه في بعض، فلا ترى فيه إلا قسوة الحزن، ومرارة الألم!

وأما عيناه فكأنما تنطق بالبكاء، لكن في صمت، بغير دموع، فهي تتوجع وتكتم آلامها..

قد كنت أعرف هذا الرجل قبل اليوم، ولا أراه إلا ضاحكًا، ولا أراه إلا باسم الثغر، يفيض بالفرح على غيره، أما اليوم فقد رأيته وقد لفَّ الحزن رأسه لفًا، وطواه الألم فقيده تقييدًا، فهو لا يعرف إلا الحزن..

وقد كنت عنده محل ثقه، وموطن أمن، يستشيرني فأشير عليه، ويستنصح لي فأنصح له، فأخذ بيدي، ليُفضي إليَّ بمكنون سره قائلًا:

كنت في بداية شبابي صاحب خلوات، وصولات وجولات، إذا قلت للفتاة أقبلي، قالت: أتيتك طائعة، فكنت ” زير نساء “، ثم إني تفكرت في أمري، ورأيت أن ما أصنعه شيء لا يُحبه الله، فعزمت على التوبة، وتزوجت طلبًا للعفاف، ومضت الأيام، ورزقت بأربعة أبناء، وصلحت حالي جدًا، وزاد رزقي، ورأيت الدنيا قد أقبلت علي..

فلزيادة نعم الله وكثرتها، نسيت ذلك الماضي، ونسيت ذلك الفقر المقذع وسوء الحال التي كنت عليها، فكفرت بأنعم الله، وعدتٌ من حيث بدأت إلى أمر كنت قد فرغت منه، وكنت قبل ذلك قد عاهدت الله أني لا أعود أبدًا..

وعبثًا مني وسوء فعل، أصبحت أطارد النساء من جديد..

وفي إحدى الليالي الحمراء بعد أن قضيت فيها وطري مع امرأة، عُدت إلى بيتي، تحملني قدم ولا تكاد تضعني الأخرى؛ فإذا بي أرى ما كنت أفعله مع النساء يفعله غيري مع أهلي، فذهلت، وخرجت من بيتي لا ألوي على شيء، ولا أتمالك نفسي من البكاء، وكان من أمري بعد ذلك أني خسرت عملي بسبب هذه المصيبة التي نزلت بي، فقد بقيت حبيس منزلي لأشهر لا أُحدث أحدًا، ولا يدري عني أحد، وطلقت امرأتي، وبقيت في حسرة ومصيبة كما ترى، فليت أمي لم تلدني، وليتني لم اعرف في حياتي امرأة قط، فسحقًا للنساء، وتبًا للنساء..

وعلم الله أني لم أجد شيئًا أواسيه به، وأني لهول مصيبته لم أعرف ماذا أقول له، ولا بأي شيء أشير عليه، وخرجت من فمي كلمة لا أدري كيف خرجت، فقد قلت له: إن الله يُمهل ولا يُهمل، وأنه كما تَدين تُدان، فلا تَلم إلا نفسك.. فضج بالبكاء، وخرج، فكان آخرعهدي به! فكأن الأرض ابتلعته، أو كأن الطير اختطفته، ولم أره أو اسمع عنه بعد ذلك.