هدير طارق البدوي
هدير طارق البدوي

د

أن نختار الوحدة!

نولد ساعين للتقبل، تنتزعنا أيدي الأطباء من بطون أمهاتنا فنبكي بحرقة حتى نُحتضن، نشعر وقتها بأننا رجعنا لموطننا، تتقبلنا أمهاتنا فتعود لنا الطمأنينة.

نكبر قليلُا ونتدرج في السنوات الدراسية ومرةً أخرى، نسعى للتقبل، أن يتقبلنا أصدقائنا فيسمحون لنا بالتسكع معهم، أن يتقبلنا معلمينا ويشيدوا بمجهوداتنا ومحاولاتنا، أن يتقبلنا والدينا فيستمعون لحكايانا عن يومنا، ويستمتعون بتناول أكواب الشاي الفارغة في حفلة الشاي التي أعددتها مع ضيوفي من العرائس.

تمر السنوات ونسعى لأن يتقبلنا هذا المجتمع المفتوح من زملاء الجامعة، وخصيصًا الجنس الآخر، فنرتدي ما يتماشى مع أحدث الصيحات، ونُغرق ملابسنا بالروائح الفائحة… حتى وإن لم تكن هذه هي شخصياتنا، حتى وإن كان اختيار العطر لا يناسب تفضيلاتي، وإن كانت هذه الملابس لا تتماشى مع شكل جسدي أو ألواني المُحببة، نتصنع ونفتعل سعيًا لأن يتقبلنا أحدهم.

يكفينا أحدهم، يكفيني صديقَا حقيقيًا واحدًا، تكفيني ابتسامة مُرحبة واحدة في بداية يوم العمل حتى وإن جاءت من حارس العقار، ربما لهذا الحد نحن محطمون! يكفيني فنجان قهوة مع غريب نتناوله مستمتعين بمزيكا الخلفية وكتاب بين أيدينا نقرأه، بلا حديث، أو علاقة واحدة دائمة، نشعر بالأمان بينما نحكي أسرارنا، نشعر بالثقة، إنها علاقة بلا أحكام، أبدًا.

مُنعت قريبًا من التحدث لأحد أصدقائي، أخبرتني طبيبتي إنه للأفضل، وأخبرتني أمي إنه لتجنب كلام الناس، أخبرتني صديقتي إنه لم يؤخذ مني، أنه يمكنني رؤيته والتحدث معه محادثات سطحية ربما، لِمَ شعرت وقتها إن مساحة أماني قد أُخذت؟ لا أستطيع التعامل بـ “سطحية”، المحاولات المستمرة لتوخي الحذر في الحديث، فيما قد يفكر به الآخرين، في خبث النوايا والتجارب السابقة، إنها مهلكة لمن هم مثلي، إن كنت يومًا صديقي فأنت تظل هكذا، دائمًا.

ربما هي أحد محاولاتي اللا متناهية للتقبل، ربما أجد من الصعوبة أن يتقبلني الآخرين فأرفض فكرة التخلي، وربما أراه إستسلامًا.

قرأتُ إنه “مش ذنبهم اللي بنروح لهم نطلع عليهم اللي عملوه ناس تانيين”… أخبرني صديقي إن لكلٍ منا تجاربه ومآسيه، أؤمن بذلك، أؤمن إنه لن نتمكن أن نعرف عن أحدهم سوى ما يخبروننا به، وعلينا، ولأجل صحتنا النفسية، أن نصدقهم… لكن لا يمكننا تحت أي مسمىً أن نفترض سوءهم فقط بسبب حكاياتهم السابقة، لا يمكننا أن نسير على الأرض خائفين من تجاربهم للحد الذي يمنعننا من افتراض حُسن النية ومنح الثقة وإن كانت لنا نحن أيضًا تجاربنا السابقة، وإن كنا قد تعرضنا للخذلان مرارًا، لأنه “مش ذنبهم” ما فعله الآخرين بنا، وما أومن به إنه كذلك “مش ذنبنا” ما فعله الآخرين بهم.

إلا إنه لا يمكنني التعامل مع البشر، ليس لأنهم محطمين بسبب ما مروا به، بل على الأحرى لأنني كذلك… نسعى للتقبل لكننا نهرب خائفين عند أول بوادره، نسعى للتقبل لكننا نخشى التعلق، نقنع أنفسنا أنه يمكننا اختيار الوحدة، ربما خوفًا أن نكون نحن آخر الشروخ التي ستتسبب أخيرًا في تهشيم أرواحهم، أو ربما هي أنانية مفرطة، نخشى أن يكون الآخر هو آخر شروخنا، نفضل اختيار قوقعة محكمة الاغلاق، خوفًا علينا ربما، أو خوفًا عليهم منا. نسعى للتقبل لكننا سنختار الوحدة ألف مرة قبل أن نسمح لأحدهم بالدخول.