يزن مهنا
يزن مهنا

د

عندما تكون الطّفولة جُرحاً في فمك!

عندما تصاب بجرح في فمك، أو لسانك فإنك تفقد المتعة بالأكل والشّرب، ويذكّرك الجرح بنفسه عبر ألم شديد كلّما جرّبت أن تأكل شيئاً، تصوّر لو أن هذا الجرح في نفسك وماضيك فتتحول إلى شخص تذكّرك كل المواقف وكل الأحداث بجرح قديم سرعان ما يلتهب ويفرض نفسه فجأة في جلساتك، وحياتك اليوميّة ليذكّرك أنه موجود يلدغك عند كلّ مناسبة تتعلق أو لا تتعلق به .

يعاني معظم الأشخاص من التنمر في محيطنا، إما يكون لفظيّاً أو جسديّاً، والجزء الأكثر خطورة هو التنمر على الأطفال لأنه لا ينتهي تأثيره عند انتهاء الفعل، بل إن تأثيره قد يلاحقهم طوال حياتهم، يفرض عليهم مشاعر ليعيشوها طوال حياتهم و نظرةً دونيّة لأنفسهم تستمر وتستعمر عقولهم مهما كبروا ومهما تفهّموا وتثقفوا، وقد تتحول هذه الصورة لكابوس لايمكن التحكم به ومفارقة منطقية في تفكيرهم في أنهم يفهمون ما تعرضوا له ويعرفون الطرق للتخلص منه لكنهم لا يستطيعون تجاوز الأمر دون أخصائي، أو علاج حقيقي.

” كنتُ أعاني زيادة في الوزن في فترة المراهقة الأولى، وكان أنفي يعتبر كبيراً.. كنت طالباً هادئاً لا اقترب من أحد ولا أزعج أحد ..” يقول تيم .

” لا أستطيع اليوم النظر الى نفسي في المرآة، أرى شخصاً مشوّهاً إذا ما نظرت، نعم أعتقد أنه لدي قلة ثقة بالنفس ورعب من المرآة .. “

” لربّما كانت هذه الحالة مستفزة لبعض الشخصيات في المدرسة أي صورة الشاب الهادىء البسيط، فكانوا ينتظرونني عند نهاية الدوام مجموعة من خمس طلاب ويلحقون بي وينادوني أيّها القبيح” .

 بشكل مستمر تعرّض تيم لهذا المضايقات حتى في كل مرة كانوا يملون من السخرية من موضوع معين ينتقلون لأمور أكبر وأكثر جرحاً، فتحول النداء من يا قبيح إلى “يا صاحب الأثداء” .

يقول تيم : ” تعايشت فترة مع الأمر، وعلمت أنه لا حيلة لي فتطور الأمر مع الوقت الى الضرب المبرح، وبعد فترة تحوّل لاحتجازي وسلبي ملابسي السفليّة وتصويري وتهديدي بالصّور، ومناداتي أيها (الشّاذ) “.

الملفت أن تيم اليوم أصبح شخصية معروفة ومشهورة الى حدّ ما في سوريا, وقد وجد لنفسه خطاً في مهنته، ورغم أنه منذ صغره كان واعياً لأن هؤلاء المتنمرين هم أشخاص لديهم مشاكل نفسية ودوافع مريضة لفعلتهم، فمع ذلك لم ينج من الآثار المستقبلية للموضوع . لقد أصبح شخصاً جميلاً، وأجرى عملية جراحيّة لأنفه وفقد وزنه وأصبح ناجحاً ومعروفاً ورغم ذلك يقول :” لايزال الماضي بنظري بشعاً جداً، أحقد على كل الفترة بين عمري الثالثة عشر والسادسة عشر” ، يقول لي أنه تجاوز الموضوع تماماً ثم يكمل :” لا أستطيع اليوم النظر الى نفسي في المرآة، أرى شخصاً مشوّهاً إذا ما نظرت، نعم أعتقد أنه لدي قلة ثقة بالنفس ورعب من المرآة .. ” . إن حالة منذ 15 عاماً تمنع اليوم إنساناً ناجحاً صوره في كل مكان من النّظر في المرآة .

إن المتنمر شخص عدواني يتملكه الحقد أوالغيرة والنقمة لواقع ما يعيشه، وإما هو شخص استبدادي نرجسي اعتاد على الحصول على كل شيء مادياً ولكنه يعاني من جفاف وجداني وعاطفي، أو فراغ في مكان ما، فتصبح مشاعره عدوانية بشكل عام. والتنمر هو أسوأ ردة فعل على شعور الإنسان بقلة التقدير تجاه نفسه، فيستخدم الإيذاء والإساءة كطريقة وقائيّة كي لا يظهر قلة تقديره لنفسه للمحيط، خوفه من الرفض الاجتماعي نتيجة شعوره أنه إذا لم يستخدم هذا الأسلوب فلن يلقى حوله أحد .

” الناس في الشارع ينظرون لي نظرات مريبة ثم يقولون مع نظرات العداء : ( الله يجيرنا ) “.

ريدا فتاة جميلة جدّاً، تمتلك عينان مميزتين وملفتتين، تدرس الطبّ البشري ومعدّلها دائماً جيد جدّاً . اختارت لنفسها هيئةً ترتاح لها وهي الشعر القصير والملابس الفضفاضة .

“(..) الموضوع لم يكن فقط في الطفولة بل هو مستمر حتى الآن ” , تقول ريدا وتكمل :” كنت طفلة وحيدة ولي أخ أكبر مني، ألعب معه ألعاب الصبيان وأركض كالصبيان، وكان همّي أني استمتع بذلك مع أخي وأصدقاؤنا، فأًصبح الجميع ينادونني (حسن صبي) _وهو وصف شائع للفتيات اللواتي يتشبّهن بالصّبيان _ ، الأطفال مثلنا والأقارب أيضاً نادوني بهذا الوصف الذي كنت أتلقاه بضحك على أنه مزاح ولم أعتقد يوماً أنه سيترك أثراً سيّئاً في نفسي كما فعل ..” تقول ريدا أن الإنسان عدما يكون طفلاً لا يعرف ما الذي يعنيه التنمر، فلا يتأثر بالضّرورة فوراً ، لكن التأثر يبدأ عندما يرى نفسه يكبر وينضج ول اتزال هذه الصورة النمطية تلاحقه، ومعها هذا الألفاظ وقائليها.

” قررت منذ أن كنت طفلة أن أعيش بالشكل والهيئة اللذان يناسباني وهذا كان خطأ بالنسبة لمجتمعي، أي أن تعيش بالهيئة أو الصورة التي تحب.. ” تضحك، و تكمل : ” الناس في الشارع ينظرون لي نظرات مريبة ويسألون هل هذا شاب أم فتاة ؟ ” ثم يقولون لي مع نظرات العداء : ( الله يجيرنا ) “.

في الأماكن العامة والمؤسسات الحكومية أحياناً، وحتى سائق سيارة الأجرة تٌعامل ريدا كشاب، رغم ملامحها الأنثوية الواضحة ولكن يبدو للناس أن شعراً قصيراً يعني أن الإنسان ذكر بدون أي شك، والأغرب بالموضوع أنه حتى من يظنّها شاب قد يتنمر لنعومة هذا الشّاب و ملامحه الأنثوية، فهي قد تكون عرضة للتنمر اذا ما عرفوها فتاة أو ظنّوها شاباً ناعماً !

“اكتشفت أن النّاس أيضاً مستعدون للتنمر على أدق التفاصيل التي لا تخطر على بال الإنسان لمجرد أنه اختلف معهم بشكل شعره وكأنه مباح، أي أن ينتقل الأمر لطريقه كلامه, أنفه أو عينيه أو أي شيء آخر.. “

” إنهم يشجّعوني على قصّ شعري، وعيش حياتي كما أريد، ولكنهم ينظرون لي على أنني أشكّل تهديداً على أمانهم الاجتماعي أو سمعتهم, ومستعدون لمعايرتي عند أول خلاف ..”

أما عن الجوانب الأشد إزعاجا في الموضوع عند ريدا فهو الأصدقاء الذين يستمرون بدعمها في وجه المجتمع، وتشجيعها على خياراتها ومواجهة المتنمرين معها، ثم فجأة عند أي خلاف يتنكرون لكل تشجيعهم ويبدؤون بالمعايرة مثلهم مثل يغرهم أو أكثر، ويضربون بعرض الحائط آراؤهم القديمة وتصبح كلماتهم أشدّ ثقلاً من غيرهم ويصبح لسخريتهم ومعايرتهم آلام من نوع آخر .

” إنهم يشجّعوني على قصّ شعري، ولكنهم ينظرون لي على أنني أشكّل تهديداً على أمانهم الاجتماعي أو سمعتهم..” تكمل ريدا :” لقد فقدت القدرة على التعامل مع الناس أو تصديقهم، كلّ منهم يمكن أن يكون مسيئاً بيوم ما، أشعر أني أينما ذهبت فسأكون محور الحديث كل من حولي بسبب شعري وملابسي الواسعة، رغم أنوثتي، فلم أعد أرتاح أبداً بالتواجد في الأماكن العامة ..”

للنّاس أحياناً قدرة ودافع للضرب في أدق تفاصيل شخصية الإنسان والتجريح بها، حتى لو أنه لا يعنيه الأمر ولا يعنيه الشّخص، فعقدة التفوق والحاجة للشعور بها قد تدفع المتنمر للسخرية من تفاصيل وصفات قد لا يلحظها حتى الإنسان في نفسه فيشكل ذلك فراغاً بين الإنسان وشعوره تجاه نفسه، يحتاج الكثير للترميم.

يدرس أحمد الطبّ البشري أيضاً، كان لديه رغبة في أن يظهر كشخص واعٍ في طفولته فقاده ذلك للتقرب من المجموعات الأكبر منه سنّاً في المدرسة كي يحظى بالهيبة والإحترام لكن انتهى به الأمر بألم لا يستطيع التخلص منه أبدا .

” لقد استغلوا ذلك، واستقووا عليّ، وعاملوني على أنني الأضعف بينهم رغم ابتعادي عنهم صاروا ينادوني بالشاذ ولا أعرف لماذا، وأصبحوا ينتظروني كي يضربوني .. حتى صار لكل منهم سعراً خاصاً عليّ أن أدفعه كي لا أتعرض للضرب منه “.

اتهم أحمد بالمثلية في مدرسته، قبل أن يعي معنى الكلمة، وقام أحد المتنمرين بأن اشترط عليه تركه وشأنه شرط أن يرسل له رسالة يقول له فيها (أنا شاذ) ، ولأنه كان صغيراً لا يفهم عواقب الموضوع وجد في الأمر مفتاحاً لقيده الذي أتعبه باستمرار، فما إن أرسل الرسالة حتى أصبحت على جوالات أغلب طلاب المدرسة، بعد فترة طويلة من الابتزاز المادي، وانتهى الأمر بأن أحدهم صدّق بمثلية أحمد، وانتظره واعتدى عليه جنسيّاً غير آبه ببكائه ولا صغر سنّه .

” أخاف التعامل مع النّاس اليوم، وأنظر اليهم كمصدر تهديد لي ولا أثق بأحد ولا بشخصيتي التي أحاول باستمرار أن أعكس غيرها لكل الناس، أريد أن يراني النّاس سعيداً مبتسماً قوياً و أنا لست أيّاً من ذلك “

يكمل أحمد : ” أشعر أنه لي شخصيتين، شخصية عادية و شخصية مثلية ولا أعرف أيهما أنا اليوم .”

يجب على الأهل الانتباه باستمرار اذا كان طفلهم لا يريد الذهاب للمدرسة، أو اذا ظهرت عليه اثار ضربات أو كدمات على جسمه، و لايجب أن يتعامل الأهل بشكل طبيعي مع جلوس ابنهم ويحداً بشكل طويل أو الإحجام عن اللعب مع الأطفال.

عليّ كان طفل اضطرته مشكلة في فكه لإجراء عملية جراحية بالغة التعقيد لدرجة أنها صورت على الإعلام، وتسببت بانتفاخ في وجهه لفترة طويلة تعرض بسببها لتنمر وأذية نفسية شديدين.

” لم أكن أريد الذهاب للمدرسة بسبب السخرية، أصبحت باكتئاب مرضيّ في وقتها وأحجمت عن الثقة بأحد أو التعامل مع أحد، وكنت أعرف أنه أي ضربة يتعرض لها وجهي فسيكون علي إعادة العملية من جديد..”

فقد علي ثقته بالناس، وتملكته فكرة أنه لايوجد أحد لا يخطط لإيذائه  والسخرية منه حتى اقتنع بأنه شخص يستحق هذه السخرية، فكان من أهله أن ساعدوه مع طبيبه كي يتجاوز الأمر عبر تنمية الجوانب المميزة فيه كي تمنحه شعورا بالتفوق يطغى على مشاعره السلبية تجاه نفسه . وقد نجحوا بذلك عبر سنين، فاليوم علي شخص متفوق ومقتنع بذلك و تجاوز الأمر تماماً، وحتى جروح عمليّته لم تعد ظاهرة.

لا تزال مجتمعاتنا تعاني من مشاكل رواسب الثقافة التجميعية المجتمعية القديمة، فلا يمكن بكثير من البيوت أن ترى أباً متعاطفاً، أو أمّاً تستمتع لمشكلات أولادها الذكور اذا ما اقترب الأمر من ممنوعات اجتماعية، وفضلاً عن ذلك لا يؤمن مجتمعنا بشكل جدّي بالعلاج النفسي، ومايزال حتى اليوم يوسم هذا الأمر بوسم العار والعيب.

ولعلّ الأخطر هو أخذ الأهل أطفالهم الذين يعانون مشكلات نفسيه الى رجال دين كي تلقوا علاجاَ دينياَ حيث الدين للمشكلات النفسية على انها ابتعاد عن الله، فيسعى رجال الدين لإعادة الأطفال أو الشباب الى المربع الأول وهو الالتزام بالأحكام المجتمعية التي فرضها الدين وبذلك يعيدون تأطير الإنسان وسوقه للتيّار كي لايعاني المشكلات الاجتماعية.

الأمم المتحدة: ربع مليار طفل يتعرضون للتنمر يوميًاً.

تنصح اليونيسف الأهل بالاستماع المستمر لأطفالهم دون الحكم عليهم، ثم شكرهم على مشاركة قصصهم مع ذويهم وإشعارهم بقيمة الأمر لديهم . تنصح أيضاً الأهل بإظهار تجاوبًا وتعاطفًا مع ما يشعر به الطفل . وأن يتمالكوا أنفسهم مهما كان الأمر صعبًا أو كانت التفاصيل مخيفة بالنسبة لهم كأهل لأن الموضوع شاق على الأطفال كثيراً ، وربما لو رأى مستمعه متوترًا سيخاف من إطلاعه على التفاصيل، أيضاً تحذر الأهل من لوم الطفل بشكل قاطع، و ضرورة أن يسألوا كثيراً ويستمعوا أكثر، وأن يحلّوا الأمر مع المدرسة اذا كانت الحوادث تجري هناك، والحديث مع المشرفين فيها، فللأهل الدور الأكبر بتجاوز الأطفال لهذا النوع من المحن.

احصاءات الأمم المتحدة تبين أن ربع مليار طفل حول العالم يتعرض للتنمر، وأجريت الدراسة على 19 دولة، وأسفرت نتائجها عن نسب مذهلة منها أن 34% من الطلاب تعرضوا للمعاملة القاسية و أن 8% منهم يتعرضون للضرب بشكل يوميّ، مما استدعى تحرّكاً من منظّمة الطفولة والأمومة التابعة للأمم المتحدة (اليونيسف).

“من يزعجك ازعجه” كلا!

المشكلة الأولى في الموضوع تتعلق بالأهل، يتعرض الأولاد للكثير من المشاعر السلبية تجاه أنفسهم حتى يتحولوا لمتنمرين، دون أن يشعروا بالمسؤولية في مدارس لاتفرض قيود حقيقية على هذا النوع من النشاطات، ولأن الإنسان بطبيعته _وخصوصاً الأطفال_ لا يستطيع التفريق وحده بين الخطأ والصّواب، وبين ما يستحق ومالا يستحق، فكلّ شيء ينبغي أن يُربّى عليه، وخصوصاً مفهوم التّراحم، فكلمات يستخدمها الأهل كثيراً مثل : ” من يزعجك ازعجه” تاركين للطفل مسؤولية الحكم بنوع الإزعاج وطريقته، تعطيه شعوراً بعدم المسؤولية عن أفعاله أو حتى شعور الذنب تجاه تصرفاته، وواضعين أطفالهم أمام قرار أكبر من استيعابهم أن عليهم التقرير من يزعجهم وماتعريف الازعاج، والقرار كيف يردون عليه بدون أي قيود .

المتنمرون هم غالباً أشخاص تعرّضوا سابقاً للتنمر، وتُركوا دون علاج أو حل للمشكلة، فيتوجهون للتنمر لاحقاً على أقرانهم، وكأن مجتمعنا قد عقد اتفاقاً وعقداً أن يدخل رحلة تمزيق الآخر بشكل دائريّ تبادليّ مستمرّ، فيما يخصّ التنمر أو الأمور الأخرى حتى.