صبا حبوش
صبا حبوش

د

كيف تتحوّل إلى إسفنجة؟


    جميع الناس متساوون في درجة النقاء والفطرة التي ولدوا عليها، لكن ما يفرقهم ويمنحهم الاختلافات هو الطريقة التي ينشؤون من خلالها، والبيئة التي تفرض نفسها بقوة في تكوينهم النفسي والجسدي، ومنظورهم للحياة والأشخاص فيما  بعد.

    في مرحلة الطفولة يكون الإنسان عبارة عن كرة من الصلصال، لينة وطرية، وقابلة للتشكيل والطواعية، حسب القالب الذي يريده الأهل في المرتبة الأولى، بعضهم يوفق في اختيار القالب الجميل المناسب لحجم تلك الكرة، وبعضهم يحاول احتواءها في قالب صغير جداً، لايناسب مقاسها، و بعضهم يضعها في قالب كبير ،ويترك بين ثنايا روحها فراغات كبيرة جداً، يملؤها في مرحلة لاحقة بالناس الغرباء، وهنا تكون بداية تحول كرة الصلصال إلى إسفنجة في مراحلها الداخلية الأولى.

    تبدأ الكرة رحلتها بين أصابع المقربين منها، لكنها تجد الغربة والشقاء عوض الحب والحنان، كلما آثرت اللجوء إلى كهف أحدهم قذف بها إلى كهف آخر.

    وتصحو الكرة ذات يوم لتجد نفسها قد تخطت مرحلة الطفولة بعقدة نفسية أو عقدتين أو أكثر، وتجد أن ما كان يؤلمها، قد أصبح أمراً قريباً من السطح ، لم تعد تتعمق في مستويات الألم والتعب كما السابق.

    وهذا منحها حصانة بسيطة تجاه مرحلة المراهقة التي ستكون امتداداً لرؤية المرحلة الأولى، بالطبع لن تجد من يغفر زلاتها، أو يبرر ما بدأ يطرأ على نموها الروحي من حيرة داخلية وارتباك، وعدم فهم لكل التبدلات التي تمر بها.

    وهنا تبدأ الإسفنجة تكتسب بشرتها الخشنة الناعمة، فتارة تبكي وتارة تضحك، تارة تقابل الفراغ والغربة عمن حولها باللامبالاة، وتارة تدخل في نوبة اكتئاب مضنية.

    وتمرّ الإسفنجة في رحلة سيرها المتعرجة، حتى تجد نفسها في منتصف العشرينيات، وقد اكتسبت ملامح الإسفنجة الشابة التي امتصت المواقف جميعها، ولم تعد الدموع تسعفها لعيش طور حزنٍ عابر، أو حتى تقمص دور المظلومة التي لم تجد من يفهمها و يحتويها.

    هذه الإسفنجة ستهرب من جميع ما يحيط بها ، ربما بزواج يرضيها أو لا يرضيها، المهم في مسألة الزواج هو الهرب من شيء ما، لا تدركه في لحظتها الآنية، وتكتشف لاحقاً أن الهرب كان من دائرة لم تمنحها وجودها، ولم تكن صدراً واسعاً تلجأ إليه عند التعب.

    وتدرك أن الزواج ليس تلك الصورة المثالية التي رسمتها في خيالها الأفلاطوني، وتجد نفسها مضطرة إلى تقبل الآخرين كما هم، أو تغيير ذاتها وأفكارها لمسايرة الأشخاص جميعهم في الدائرة الجديدة.

    وتعاود الإسفنجة مرحلة الصراع بين الذات والآخر ، وبين ما يجب أن يكون، وبين ما تبتغيه عجلة الحياة المستمرة، وهنا تتشكل الإسفنجة في صورتها الأخيرة، إذ يخفّ الشعور فوق أديمها، مهما تلقّفتها الجدران لن يمر الألم عليها، ومهما عُصرت وهي مبللة الروح أو جافة القلب،  لن تجد دموعها تسرع للسقوط أو الاحتراق، فهي اعتادت الشقاء حتى غدت شديدة الانزواء، غير مكترثة بمن يقول أو بما يُقال ومتى، و إن وضعت في أكثر الأماكن رطوبة، فهي قادرة على امتصاص كل المواقف والخيبات، حتى تمتلئ فيها كل الامتلاء، وبمرور الوقت سيتبخر كلّ شيء، وتعود إلى جفافها الصامت أكثر من أي وقت مضى.

    هذه الكرة اللينة كيف تحوّلت إلى إسفنجة جافة؟

    تجد الجواب داخل نفسك بالعودة بالزمن إلى الماضي، واكتشاف مدى قابليتك لامتصاص المواقف والذكريات، دون أن تترك شرخاً قاسياً فوق صدرك، وكأنّ الأمر لم يعنيك يوماً.