نوف العوفي
نوف العوفي

د

روجر سكروتن.. ومفهوم الجمال الخافت!

في كتابه الأشهر (الجمال) يُصوّر روجر سكروتون قدسية الجمال بقولهِ:

“قد نجد في الجمال مواساة، وقداسة، وقلقاً.. بل وحتى دنساً، قد يكون مُبهجاً، وجذاباً.. ومُلهماً ومُنعشاً. إنه قادر على أن يؤثر فينا بصور لا حصر لها. ورغم هذا لم يحدث قط أن قوبل الجمال بلا مبالاة: فهو يفرض علينا أن نلاحظهُ، ويتحدث معنا كصديق حميم ولو كان هناك أناس لا يلقون للجمال بالاً، فهذا بالتأكيد لخلل ما في الإدراك الحسي لديهم”.

فمتى كانت المرة الأخيرة التي اصطدم نظرك فيها بجمال من نوع خاص؟ ذلك الجمال العميق الذي لن تستطيع العين المجردة اقتحامه وتفصيله على عجل، بل يلزمك على الأقل عدّة دقائق كي تستطيع تجسيده وإطلاق أحكامك المطلقة وتقييمه كجمال خاص؟

متى كانت المرة الأخيرة التي وجدت نفسك وسط تساؤلات وحيرة تجاه ماهيّة الجمال القابع أمامك من مباني بتركيبة هندسيّة غريبة، أو لوحات فنية ذات ألوان مُختلطة غير متوافقة، أو لحن أغنية مأخوذة من فلكلور بلاد مجهولة!

يُثير سكروتون في كتابه عدداً من التساؤلات القيمة عن ما الذي يجعل الجمال جمالاً حقيقاً؟ إنها الأذواق البشرية المختلفة حول جماليات الأشياء، ليس هناك أسس علمية واضحة لتقييم الجمال، لذلك يُعد كتابه المرجع الأهم لفهم معايير الجمال من خلال النظريات العلمية عبر سنوات من البحث والدراسة في شتى مجالات الفنون.

أما عن لحظاتنا الخاصة نُحن البسطاء تجاه الجمال، فهي تعد من أكثر اللحظات دهشة وعمق للبحث عن الجمال الخافت والمختبئ خلف الأشياء، والركام، والصمت.

نقف أمام ذلك النوع من الجمال بدهشة كاملة كوننا سئمنا نحن معشرعشاق الجمال والفن كل الأشياء التي تّأتي مكتملة  التفاصيل والمعاير، سئمنا ذلك النوع من الجمال المتجسد في صور المطاعم والمقاهي الفاخرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أصبحنا  قادرين على تقييم معايير الجمال بصورتها العادية والمطلقة، ومن ثم تنصرف أبصارنا وحواسنا  لشيء آخر كنوع من اللهث والبحث المتواصل عن لحظات الاندهاش بشيء مُبهر نجهل في كثير من الأحيان عن ماهية وصفه بكثير من الحيرة والجهل!

هذا ما كشف عنه الكاتب الإنجليزي روجر سكروتون في  كتابه «علم الجمال». لقد كانت لحظات العثور على ذلك الكتاب أول طريق الدهشة للخوض في عالم مفتوح يسمى الجمال أو علم الجمال؛ الذي أصبح اليوم منهجاً رسمياً يُدرس في الكثير من الجامعات العريقة حول العالم.

ففي عالم سكروتون يُصبح للجمال أبواب ونوافذ خلفيّة يصعب على المرء العثور عليها ما لم يسخر خياله وانطباعاته الخاصة حول جمال الأشياء حوله، كما فعل سكروبت حينما صنّف الجمال إلى عدة مسميات تبعث على التأمل والروعة؛ منها الجمال الخافت، والجمال الجليل، والجمال الخطير.

لكن الجمال الخافت كان عالماً شيقاً بالنسبة لي، فلم أسمع  ذات يوم بشخص يصنف الجمال بمثل تلك المسميات ذات القيمة الجوهرية العميقة، لكن بعد أن قرأت صفحات سكروتون أصبح للجمال قيمته الخاصة.. فالجمال في عالمه لا قيمة له ما لم يكن له فائدة تستحق وصفها بالجمال!

أي أن الجمال الواضح لا يشكل أدنى أهمية لعقولنا فهو كالأشياء المعتادة والثابتة، بعكس الجمال البسيط الخافت وهو الجمال في أقل درجاته، والذي قد يكون بعيداً للغاية عن الجمال «المقدس» للفن والطبيعة، الذي ناقشه الفلاسفة بشيء من العادة والرتابة، لكنه يُشكّل عصب الجذب والفضول لعقولنا الباحثة على الدوام عن الجماليات الصامتة والمختبئة.

فهناك أوجه للجمال البسيط التي نكتشفها في أشياء بسيطة مثل وضع المنضدة في مكان معين أو ترتيب حجرة أو تصميم موقع على الإنترنت بشيء من البساطة والعفوية، الفن في الجمال الخافت لا يُحاكي العين بل يُحاكي العقل من خلال نقل المعاني والقيم. لذلك فإن علم الجمال يأخذ على عاتقه القيام باختبار نقدي لاعتقاداتنا المتعلقة بأمور مثل ما الذي يعنيه القول إن شخصاً معين ذو «ذوق سليم» من شخص أخر!

العمارة الإيطالية بعيون سكروتون

تفسيراً لمعنى الجمال الخافت يرى سكرتون أن مدينة البندقية سوف تفقد جانباً كبيراً من جمالها دون مبانيها القديمة المتراصة على المياه، مثل كنيسة القديسة ماريا ديلا سالوت (Sta Maria Della Salute). لهذا يعتبر الجمال الخافت طريقاً جديداً للتأمل غير المألوف لأنه يجعل النفس البشرية تتوق لرسم تفاصيل الجمال من خلال الاكتمال لا من خلال الجمال المنفرد.

كمنظر برج إيفل الباريسي من خلف الأبنية القديمة والنوافذ المعلقة.. فبدون تلك المكونات لما اكتملَ جماله الخلاب في الصور المعلقة في المتاحف والصور الفوتوغرافية. للجمال الخافت رونقه الخاص فلا يُقدّر قيمته سوا العاشق للفن بصورته المنفردة والجليلة!

إن صفة الجمال ليست الصفة النهائية والوحيدة التي نستخدمها لإطلاق أحكام من هذا النوع، فقد نُثني على أشياء معينة لأناقتها أو دقة تفاصيلها أو شكلها العتيق، وقد نعجب بموسيقى معينة لما بها من تعبير أو ألحان وترتيب النغمات، لكن في نهاية الأمر نحن البشر نقدر الأشياء الجذابة والساحرة والمبهرة، ونكون في أحكامنا أكثر ثقةً مما لو اكتفينا بالقول بأن شيئاً ما جميل!

إن الحديث عن الجمال يعني الانطلاق لعالم آخر أكثر رقياً، عالم مُنفصل عن اهتماماتنا التافهة والسطحية، ومن ثم فإن حديثنا عنه يجب أن يكون مُغلفاً ببعض البساطة والتأني..