سامي الذبياني
سامي الذبياني

د

الجمال المصنوع!

المتنبي من كبار الشعراء، ومن أمراء العربية، وله ذوق فخم، وله إحساس شعريُّ لطيف.

ومن عجائب هذا الرجل أنه ما ابتلي بما ابتلي به كثير من رجال عصره، من أمور كانت شائعة في ذلك الوقت، كالزنا واللواط وشرب الخمر، فقد كان معهودًا عن أبي الطيب سلامة أخلاقه من عيوب أهل عصره، ولهذا كان شعره فخمًا، وذوقه صحيحًا سليمًا.

فإذا علمنا هذا عن ذوق أبي الطيب المتنبي، علمنا مقدار شعره، ومقدار سلامة ذوقه، ومقدار صحة أحكامه، وصواب آرائه التي اعتمدها في شعره، يقول أبو الطيب يمدح النساء البدويات:

ما أوجه الحضر المستحسنات به – كأوجه البدويات الرعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية – وفي البداوة حُسْنٌ غير مجلوب

يقول أنَّ حسناوات نساء أهل المدن ليسوا كحسناوات نساء أهل البادية، فوجوه نساء أهل المدن مجلوبٌ فيها الحسن، مصنوعة فيها الزينة، أما البدويات فجمالٌ وجوههن غير مصنوع، وحسن وجوههن طبيعي كما خلقه الله غير مجلوب، ولهذا أحبه أبو الطيب وارتضاه.

ونحن نعلم أن أبو الطيب رجلُّ جوال رحّال، وقد قال هذا الشعر وقت إقامته بمصر، بعد أن زار أكثر حواضر العالم الإسلامي في ذلك الوقت العراق، ومصر، والشام، فرأى نسائها، وعرف أنواع الزينة عندهن، فلم تُعجبه، ولم يطب بها نفسًا، بل كرهها وأحبَّ ذلك الجمال البدوي الذي ألفه وعاش معه وقت طفولته، ” الجمال البدوي غير المصنوع”

ثم يقول بعد ذلك:

أفْدِي ظباء فلاة ما عرفن بها – مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ولا برزن من الحمام مائلةً – أوراكهن صقيلات العراقيب

انظر إلى هذا الوصف البديع لنساء أهل المدن، كأنه يصف نساء زماننا، فهن يمضغن الكلام ويُمطّطنه إغراءًا للرجال، وهنَّ يصبغن حواجبهن كذلك، وهنَّ يتمايلن عند الخروج من “الحمام”، وكان ” الحمام” منتشرًا في ذلك الوقت وهي حمامات خاصة بالنساء، كان يتجمّع حولها الفساق والرذلاء طلبًا للنساء.

ثم يقول بعد ذلك:

ومن هَوَى كل من ليست مموهة – تركت لون مشيبي غير مخضوب

ومن هوى الصدق في قولي وعادته – رغبت عن شعر في الوجه مكذوب

يقول أنه لحبه للصدق، وكرهه للكذب، صار يُبغض أن يرى جمالًا مصنوعًا، وصار هو بنفسه لا يطلب الزينة، فهو لا يصبغ شيبه ليغطي عيوب عمره، إنما يترك الطبيعة للطبيعة، ويبقي الأصل على صورته الحقيقة، وهو لهذا لم يستطب نساء أهل المدن، ولم يُعجب بهن، بل اشتاق في شعره هذا إلى النساء البدويات العربيات، اللاتي ألفهنَّ وعرفهنَّ في صباه، فما أحسن ذوق أبي الطيب، وما أجمل ما اختاره لنفسه ورضيه!

فلماذا لا يكون لنا مثل هذا الذوق اللطيف معاشر الرجال؟!