تسبيح تكروري
تسبيح تكروري

د

هل أصبح الفَنُّ رخيصًا؟!

عِندما كنتُ في الصّف الثّامِن، وزَّعَت علينَا مُعلّمة الفنّ ورقةً مطبوعةً تحوي رَسمةً طَلبَت مِنّا تلوينها، يومها لم تُقدّم لنا إرشاداتٍ تُقيِّم على أساسها تقيُّدَنا بها، بل أخذت كُلّ طالبةٍ تُلوِّن حسب ذوقهَا ورُؤيتها الخاصَّة، جمعَت يومهَا المُعلّمة الأوراق بعد انتهائنا مِن التّلوين، ثُمّ أعادتهم وكُلّ ورقةٍ مُدرجٌ عليها علامة، وعندما وصلتني وَرقتي كانَت علامتي هِيَ ثَمانِيَة مِن عَشرة! وكان ذلك صادِمًا لأنّني اعتدتُ دائمًا حصد أعلى العلامات في حِصص الفَنّ، تِلك العلامةُ الّتي وضعتها مُدرّسةُ الفَنّ بناءً على ذوقهَا الخاصّ تركت في تلك الطّفلة أثرًا عَميقًا، وفجَّرت على الجانب الآخر أسئِلةً بِحاجةٍ لإجابات..

كُنتُ أتساءَل، مِن أين يأخذُ الفنُّ قِيمته؟ فبينما هُنالك لوحة الموناليزا القيّمة، هُنالكَ نُسخٌ أخرى مُقلّدة لم تُعطَ قيمةَ اللوحة الأصل، ولِم لا تكونُ للصُّوَرِ المطبوعَة القيمة ذاتهَا الّتي تكونُ عليها الرّسومُ اليدويّة؟ فبينما هنالكَ اللوحة، يمكن التِقاط صورةٍ عالية الجودة لها وطباعة نُسخٍ مِنها وتوزيعها هُنا وهُناك! ثُمَّ هَل لإنسانٍ الحَقُّ في تقييم فَنِّ إنسانٍ آخر؟ أمْ له الحَقُّ في استشعاره فقَط؟  وهل تُستَنزفُ قيمةُ الفَنّ الأصيل؟!

لطالما كان الفَنُّ لُغة الإنسان المُشتركة، يُصوّر بواسطته أحاسيسه ومشاعِره وصِراعاته وأزماته، فتخرجُ اللوحاتُ مُعبّرةً عن الشّعور، وتُولدُ المقاطع الموسيقيّة وصفًا للأزمات، وتنبثق الرَّقصات مُصوّرَةً صِراعات الإنسان، ويخرجُ الشِّعر والأدب وكُلّ أنواع الفُنون.. تعبيرًا عن الإنسان، هذا الإنسان الّذي يبحث عن نفسه بين كُلّ هذه الموجودات المادّيّة؛ مُحاولًا إدراك هويّته في هذا العالم الّذي يبدو غريبًا فيه.

يقول الفنّان السّويسري ألبرتو جياكوميتي في تعريفه للفنّ “النّشاط الغامِض، والبحثُ عن المُستَحيل،  والمُحاولة اليائِسة للإمساك بالنّار..الرّوح..جوهر الحَياة”، من خِلال قوله وأقوال فنّانين آخرين نرى الفَنّ في عُيونهم على أنّهُ نشاطٌ فوق عقليّ يستقلُّ عن كونه نِتاجًا مادّيًا ينتفعُ الفردُ به، فبمَ تُفيد لَوحة مُعلّقَة أو منحوتة تحتلّ زاوية! وما الحاجة لفنّانِي المعمار الّذين يخرجون بأشكالٍ جديدةٍ للأبنية في حين أنّ التكلفة تكون أقلّ إذا ما صُنعت المنشآت من إسمنتٍ صامتٍ لا وجه له! هل ستساعد هذه اللوحات والمنحوتات على الأكل والشُّرب مثلًا؟ وهل ستُغيِّر أشكال البنايات طبيعة العيش داخلها؟ وفي ذلك يقول الفنان فينست فان جوخ “لو أنك رسّام، فسيظُنونك إما مجنونًا أو ثريًا؛ يُكلف كأس الحليب فرنكًا، وشريحة الخُبز بالزُّبدة فرنكين، واللوحات لا تباع” تعبيرًا عن أنَّ هذا الفنّ قد لا يَرجِعُ بأيّ عائد، بَل العَكس تَمامًا، قد يأخذ مِن صانعِه.

على المُستوى المادّيّ، قَد نقولُ أنّ كُلّ هذا لا يُسمن ولا يُغني مِن جُوع، ولكِن على مُستوى أبعد مِن ذلك، فإنَّ هذه الفُنون هي جُزءٌ من طبيعتنا الإنسانيّة وحياتنَا الدّاخليّة الّتي تخرجُ عن كَونها مجموع غرائزنا الّتي نشترك فيها مع الحيوان -الحاجات الفسيولوجية-، وهَرَم ماسلو للحاجات الإنسانيّة يقولُ الكثير في هذا المَجال. فاللوحة عدا عن أنّها تَصويرٌ لِنفس الفنان، فإنّها رِحلةٌ جُوّانيّةٌ لإنسانٍ آخر وقف يتأمَّلها، والمِعمار تعبيرٌ عن ثقافة صانِعه وقاطِنيه وانعِكاسٌ جَماليٌّ داخل نُفوس المارّينِ به المُتأمّلين له، إنَّ الإنسان يَعشَقُ الجَمال ويبحثُ عنه، ويجد الجَمال في الفَنّ، ويُحبّ كل ما يُثبت له أنّه ليس مجمُوع غرائِزه، وفي الفنّ يجدُ هذا، وحتّى وإن لم يكن العمل الفنيّ يحمل سِمات الجمال، فالفنّ القَبيح.. هو تعبيرٌ إنسانيٌّ عميقٌ أيضًا.

تقولُ الحِكمة العَربيّة “كُلّ زائدٍ ناقِص”، والنّقص هُنا معنويٌّ لا مادّيّ، ويقول والدي أنَّ اللذّة الحقيقيّة تكونُ في  القَضمةِ الآولى من لَوح الشوكولاتة، أمّا القَضمات الّتي تليها فإنّها لا تُضاهي طعم القَضمة الآولى وتكون أقلَّ لِذّة، ماذا لَو قِسنَا الأمرَ ذاته على الفَنّ! فحينَما نتمشّى في الشّوارع نجد لوحات فان جوخ مثلًا على الملابس والأحذية، ونرى اقتباساتٍ فنّية مِن سقف كنيسة سيستينا الّتي رسمها مايكل آنجلو مطبوعةً على الحقائِب وأغطية الهواتف، أينما نولّى وُجوهنا فثمّة رُموزٌ وفُنون، وأغلبها ليس حديثًا مُبتكرًا، بَل مقتبس عن ولادةٍ فنّيةٍ سابقَة، فهل هذا تدعيمٌ لوُجود الفَنّ في حياتنا؟! أم أنّهُ انتِهاكٌ واستنزافٌ لما أُنتج من فَنّ!

حسب رأيي الشّخصيّ، فإنَّ كلام والدي عن الشوكولاتة ينطَبق على الفَنِّ أيضًا، فرؤية أعمالٍ فَنّيةٍ في غير موضعها يجعلُ الأصل شِبه مُستنزف، ويجعلُ رُؤية اللوحة الأصل -مَثلًا- أقلَّ لهفةً وشُعورًا، ليست القضيّة في فرط التّداول فقَط، بل في فرط التّداوُل الجاهل الأعمى! جرِّب مثلًا أن تُوقِف أحدَ المارّةِ وتسألهُ عن معنى الرَّمز على حقيبته، ستكونُ محظوظًا إذا حصلت على إجابةٍ حقيقيّة واضِحة، فأغلب الأَمرِ أنّ وجود الرّمز على حقيبته ما هو إلّا اندفاعٌ نحو ما هو رائجٌ فحسب، ولا ينتهي الأمرُ فقَط عند فنُون الرَّسم، بل يطال الكُتُب الّتي أصبحت تتحوَّلُ من قيمةٍ فَنّية إلّى مُجرَّد سِلعة استهلاكيّة تُنتَج بناءً على الطَّلَب.

الآن، لنعُد إلى المُعلّمة الّتي أخذت تضع لنا التّقييم حسب ذوقها قبل سِتّ سنوات، قد نتجاوَز فِكرةَ أنّها جعلت للفنِّ حُدودًا وأنقصت من قيمته عندما سمحت للآلة الطّابعة بأن تمنحنَا جميعًا نُسخًا مِن صُورةٍ مُماثلةٍ كي نُلوّنها، وربّمَا نتجاوز جهل المعلّمة في كون كُلّ شخصٍ يرى الألوان بطريقةٍ مُختلفةٍ عن الأشخاص الآخرين، لكنّنا -وتلك الطّفلة- لَن نتجاوزتغيير المُعلّمة للهدف الأساسيّ من حِصص الفَنّ، فهذه الحصصُ الّتي من المُفترض أن تكون مساحةً لتعبير الإنسان عن ذاته واستشعاره طاقته الدّاخليّة، جُعلَت لتكونَ مَساحةً لفضاء المُعلّم وذوقه الشَّخصيّ وحُدود رُؤيته، وإن كان هذا إخلالًا بالعمليّة التّعليميّة، فَإنّهُ كَذلكِ انتِهاكٌ وإنقاصٌ مِن قيمة الفَنّ.

فهل نتعجَّب الآن إن كان الفَنّ يُنتهك في البضائِع مثلًا ويستخدمهُ النّاس بجهل! هَذا الفَنُّ الّذي كانَ يُنتهكُ في المدارس أصلًا على يَدِ مَن نُصِّبَ مَنصب القُدوة، على يَدِ المُعلِّم!