عزة عبد القادر
عزة عبد القادر

د

بصمة الإسكندر الأكبر وخان الخليلي!


التراث الأوروبي المنفتح..

طالما كنت انبهر بالتراث الاوربي في كل شيء، حيث يجذبني الانفتاح المعماري والاتساع الممتد، تلك المباني الشاهقة وناطحات السحاب العالية التي تبدو وكأنها تدنو من السماء وتلمس الدوائر الثلجية والنجوم، ما أجمل الشوارع الواسعة المتوازية التي تتقاطع مع شوارع تماثلها في القياس والكتلة، إنها براعة التصميم وروعة الأشكال، فالأحياء تظهر وكأنها لوحة شطرنج تتساوى المربعات مع المساحات المستطيلة..

وأينما تذهب تصل إلى البحر، نعم إنها الإسكندرية (البصمة الذهبية للإسكندر الأكبر)، ربما كان له نهج خاص في اختيار المهندسين المعمارين، أو إنه المستشار المعماري الذي كان يعمل في فريقه، إن كل الشوارع في المدينة تؤدي بك إلى شاطىء الإسكندرية، يعني كل الطرق تؤدي إلى روما أو هزلا ربما لرومانيا أياً ما يكون ولكنها اللمسات اليونانية وليست الرومانية، فشتان بين أصحاب الفن وأصحاب الحرب، فارق شاسع بين رهف الأحساس وبين صناع السلاح.

جمال الآثار اليونانية..

يبقى الأثر اليوناني شاهداً على الجمال والإبداع، فمن الصعب أن تزور عروس البحر المتوسط ولا تشم عبق الماضي أو يأخذك خيالك إلى حياة الإسكندر والبطالمة، وكيف كانت أفكارهم وأحلامهم، وما هي الهوايات المفضلة لديهم، بالتأكيد إناس أصحاب سحر وجمال حيث يتضح ذلك جليا في التصميم المعماري والسكيتشات المنقوشة على الجدران في كل حي وضاحية أينما تجولت سواء بجوار البحر أوبعيداً عن البحر ستلحظ الروح الصافية والسعادة الغامرة التي ستسمعها ليس فقط في صوت الأمواج، بل في الأحجار والرمال.

هل يمكن بعد ذلك أن تتخيل إنه يمكنك أن ترى تراثاً أكثر جمالا من هذا ، إذا كنت لا تعتقد أن هذا مستحيل فإن هذا ليس غريباً لأن من يرى جنة الرحمن لن يصل عقله إلى أكثر من ذلك.

خان الخليلي والجواهر النادرة..

في الجولة الثانية إلى خان الخليلي ستنتقل إلى عالم ذو طبيعة أخرى، وربما تستشعر إنه الأكثر قدماً ولكنه في الحقيقة أكثر عمقاً ولم يكن عمقاً منغلقاً ولكنه مغلفاً كالجواهر النادرة فقد انفتحت الحضارة الإسلامية على كافة الفنون اليونانية والرومانية والساسانية ، إنها العمارة الإسلامية ذات التخطيط المتعرج والشوارع المتقطعة والحارات الصغيرة التي تقطعها التي تثير داخلك بعض الأسئلة لتقول هل هي تعتمد التعقيد الهندسي أم أن ذلك سهواً منهم في عدم مراعاة التساوي في القياسات والمساقط الأفقية ، وستصاب بالدهشة عندما تعرف أن هناك دقة في رسم التعرجات والمداخل المنكسرة والممرات السرية التي تربط الشوارع ، بل وممرات خفية يتم تصميمها في داخل البيوتات ، إنها المنازل ذات الأسقف العالية والمشربيات التي كانت بمثابة الشبابيك في المعمار الإسلامي ولكنها شبابيك مغلقة ذات أشكال خشبية مزخرفة بها فتحات للتهوية ، فالمسألة لم تكن جمالية فقط ولكنها إيمانية ، فقد سخر المهندسين العمارة الإسلامية لتطبيق الشرع الإسلامي وحماية الحرمات داخل البيوت والعمائر المدنية عن أنظار الأجانب والغرباء ، وكانت المباني المدنية تراعي الأطوال المعتدلة ولا تبتغي الضخامة والارتفاع ، وكان ذلك لتخفيف حرارة الجو عن القانطين فيها وترطيب الهواء.

عقد هندسية..

فالمسألة ليست تعقيداً هندسيا ولكنها دقة تهدف إلى مراعاة البيئة وتطهير الهواء ليكون نظيفاً صافياً . ففي معظم البيوت الإسلامية المقامة بالمدن كانت الحوائط الخارجية للطابق الأرضي عادة ما تُبنى بالحجر الجيري بسمك 50 سم وأكثر، وبسبب اللون الفاتح للحجارة فإنها تعكس جزءا كبيرا من الإشعاع الشمسي الساقط عليها، والحجر الجيري مادة ذات سعة حرارية عالية مما يجعل زمن النفاذ الحراري من خلاله يصل إلى 15 ساعة، وهذا يعني أن الحرارة الخارجية سوف تأخذ وقتا طويلا لتصل لفراغات المبنى الداخلية نظرا لطبيعة وسُمْك الحجر المستخدم في بناء حوائطه، لذلك فإن ارتفاع درجة حرارة الهواء نتيجة إشعاع الحوائط الخارجية للحرارة المخزونة بها ليلا لن يسبب إزعاجا، حيث إن الأدوار الأرضية في البيت الإسلامي كانت لا تستخدم غالبا في النوم، وعلى ذلك فإن الفراغات الداخلية تحتفظ بهوائها البارد معظم ساعات النهار أثناء ارتفاع درجة حرارة الهواء في الخارج ، إنها البراعة المعمارية وعبقرية التخطيط والقياس .

إنه العلم والدراسة المتأنية ، فحتى الفتحات بواجهات المباني الإسلامية كان يتم توزيعها بحسابات دقيقة ، خاصة البنايات السكنية، كان يتم توجيه كل واجهة وما تتعرض له من إشعاع شمسي، وهو ما أوضحته إحدى الدراسات الحديثة، فقد اتضح من دراسة الواجهات المطلة على فناء منزل جمال الدين الذهبي بالقاهرة الإسلامية أن أسلوب توزيع الفتحات وأماكن البروزات خاصة بكل من الواجهتين الشرقية والجنوبية قد أتاح توافر كم كبير من الظلال في منتصف النهار صيفا، حيث تأخذ الشمس أكبر ارتفاع لها بالسماء، كما لوحظ أن نسبة الفتحات بالواجهة الجنوبية تشكل حوالي 11.66% من إجمالي مساحة الواجهة، وأن نسبة وقوعها في الظل نتيجة للبروزات الموجودة بالواجهة قد وصل إلى 86%، أما في الشتاء فإن نسبة تظليل هذه الفتحات تقل لتصبح 75%، مما يدل على أن هذه الفتحات تتمتع بكمية أكبر من الإشعاع الشمسي، وهو شيء مطلوب في أثناء الشتاء، وهو ما يؤكد أن توزيع الفتحات ومقدار البروزات قد تم بأسلوب يعمل على تعظيم كمّ الظلال صيفا وتقليله شتاء. المصدر:(د.يحيى وزير- العمارة الإسلامية والبيئة، ص113)

المقارنة بين الجولتين..

هل يمكن بعد الجولتين أن نقارن بين المعمار الأوربي والإسلامي ، بالتأكيد تستطيع أن تقارن وأن تختار ما تشاء لتعجب به ، ولكنك ستعرف بالتأكيد أن العمارة الإسلامية تناسبك من حيث مراعاتها للبيئة الحارة ، وكذلك إنها تخدم الشرع الإسلامي وفوق كل ذلك إنها عمائر مدنية جميلة ومغلفة تشعرك بالخصوصية والاستقلال وفي ذات الوقت فإن الرسومات والنقوش تبدو صغيرة وذات ألوان زاهية ، ولكنك رغم كل ذلك لن تستطيع أن تزهد في العمارة اليونانية رغم إنك ستتأكد إنها سهلة في رسمها وتخطيطها لأنها كما ذكر خبراء علم الآثار تمثل لوحة شطرنج حيث تخط بالقلم 10 خطوط عرضية وتقطعها ب10 خطوط طولية لتحصل على شكل ضاحية كاملة ، أما المنزل فيمكنك أن ترسم مربعا ممتدا وغرفتين على اليمين وغرفتين في الجنوب لتحصل على الشكل الأوربي لبيتك ، حقيقة هو شكل ميسر ومنفتح ولكنه لن يناسبك لأن تلك الرسوم تتناسب مع البلاد الباردة وكذلك هي تسير أكثر مع العقيدة الفكرية المتحررة لأقصى مدى ، ولم تكن الحضارة الإسلامية تخشى التحرر ولكنه التحرر والاتساع الذي حافظ على الخصوصية ، لكننا نحب اسكندرية ونحب خان الخليلي.