هدير طارق البدوي
هدير طارق البدوي

د

كيف ستعرف السكر وأنت الذي لم تتذوق الملح يومًا؟

قرأت اليوم منشورًا لأحدهم يحكي عن شابًا كفيفًا أصم، كان كذلك طوال سنواته العشرين، حينما أستعاد بصره كان أول ما رآه كلبًا، كونه لا يعرف كيف يبدو شكله، فهو لم ينظر في مرآة من قبل، ظن أن هذا الكلب هو إنسان، إلا إنه ربما يكون مختلفلًا قليلًا عنه، حتى رأى بشريًا.. علم وقتها أن هذا الكائن الذي رآه، والذي لا يزال لا يدري ما هو، ليس بشريًا، ليس مثله.

نحن لا نعرف الشيء حتى نشعر بحقيقته، أو نقيضها.. فأنت قد تظل تظن أنك تحب أحدهم حتى يأتي من يُشعرك بحقيقة ماهية الحب، لن تعرف معنى الصداقة إلا حين تُصادق من يؤازرك في شدتك قبل فرحك ويكون خير عونٍ لك.. ستظل تظن إن مشاعرك حقيقية، وأنك تحصل على ما تستحق، وأن هذا السيناريو هو الأفضل والأصدق والأعلى مقامًا، حتى يحدث ما يُبدِل قناعاتك ويُصحح أفكارك.

إذن فإن ما أشعر به الآن ليس حُبًا، ضربات قلبي التي تتراقص حتى يسمعها المُحيطين بي حين آراه ليست حُبًا، وإحمرار وجهي إذا ما حادثني ليس حقيقيًا؟ تصيدي للفُرص لأتحدث معه، إهتمامي بتفاصيله وخلجاته، والاطمئنان والسكينة التي تشملني حين أعلم بوجوده، كلها ليست حُبًا؟

أعتقد أنني لن أعرف إجابة لهذا السؤال يقينًا حتى أشعر بهذا المدعو بالحب، لا أعلم حتى كيف أصفه، فنحن نحكي ما عايشناه، أو تصورنا عما سنشعر به إذا ما عايشناه يومًا، وأنا ليس لدي تصورًا لهذا.. إنها نفس الفكرة التي تحدث عنها صديقنا الكاتب، لا يسع عقلي استيعاب أن هناك ما هو أكثر تأثيرًا على مشاعري مما أمُر به الآن، فلا أستطيع وصفه.

ربما تكون هذه الفكرة أكثر أفكاري ظلامًا وإيلامًا حتى الآن.. فكرة ألا يدري الإنسان أن هناك ما هو أجمل أو أصدق أو أقوى مما لديه.. فكرة إنني قد أموت ولم أشعر بهذا النوع من الحب من قبل، الحب الذي لا يهم كم ظننت أنني أحببت قبله، أو كم أحببت بعده، سيظل هو قمة مقياسي للمشاعر والتي أقيس باقيتها بناءًا على ما شعرت به وقتها.. فكرة إنه قد يعيش أحدنا حياته كاملةً وهي لا يدري كيف يصف شعورًا ما، لأنه لم يُجربه.

لا أعلم، لكن ما أعلمه إنني أود إن أترك لنفسي العنان لتجربتهم جميعًا، الحب والصداقة والأمومة والسعادة والنجاح، كما أود أيضًا أن أُجرب الهزيمة والضعف واليأس والعجز، ربما ليس العجز فقد مررت به قبلًا، وهي تجربة لا أود استعادتها مُجددًا. يكمن مقصدي في أنني أود أن أجرب جميع المشاعر، حلوها ومرها.. سيساعدني هذا في الكتابة عنها ووصفها، سيساعدني هذا في معرفة ما أود وما أكره، سيساعدني هذا في تذوق الشعور ونقيضه، سيساعدني هذا لأحيا.

إنها نفس الفكرة التي كبرنا عليها، لن تشعر بطعم الحلوى إن كانت هي كل ما تأكله، لن تعرف لم يتمنى الناس النجاح وأنت الذي لم تفشل يومًا، ولن تُقدّر ما بيدك من نِعم طالما أنه لم يُقال لك لا قبلًا. فارزقنا اللهم حلاوة النجاح بعد الفشل، والوصول بعد التعثر، وتذوق السكر بعد الملح.. ارزقنا اللهم حلاوة المشاعر ككفيفًا قد استعاد بصره للتو.