آلاء عمارة
آلاء عمارة

د

زملوني ودثروني.. وعن العجز جئت أُحدثكم!


زملوني زملوني..دثروني دثروني..شدوا أزري..جاء موتي..أنا وحدي..وأنتم عوني..تُركت يدي..همد قلبي..رحت أبكي..سكت حسي..بقي جسدي..ذهبت روحي.

سمعت كثيرًا عن قصص أطباء عجزوا عن مساعدة أقرب الناس لهم. في إحدى محادثاتي مع إحداهن، قيل لي أنّ والدتها كانت مريضة في المشفى التي تعمل فيها في وقتٍ ما، وفجأة ساءت حالة الأمِ كثيرًا. ما كان من الطبيبة المسكينة إلا أن تقف في حالة ذهول وعجز، تحاول تذكر أي معلومة درستها في الطب لمدة ست سنوات لتنقذ والدتها، ولكنها حسب تعبيرها: “كأنني لم أدرس الطب قط!”. 

لكن هذا ليس كل شيء، الأمر لا يرتبط فقط بالعجز أمام الأقارب أو الأبناء. في كثير من الأحيان تأتي قلة الحيلة في المقدمة. حيث يقول المنطق لا، ويقول القلب نعم. والعقل واقفًا بين الاثنين بعجز فيهتف قائلًا: “وقلة حيلتي”. ويجلس في انتظار البلاء المحتوم. حيث تأتي لحظة الهدوء، تليها الآهات والأوجاع وصوت الموت يدوي بقوة في الأرجاء. فإذا جاء، رُفعت أيادي البشر احترامًا للحق الذي أُرسل لأشخاص محددين في ساعة بل في لحظة محددة. عندها يتوقف الزمان وتختفي ملامح المكان، وتستعد الروح للذهاب.

قطوف سريعة من التاريخ 

“الحياة تنفلت هاربة، ولا تنتظر ساعة واحدة” 

جيوفاني بوكاشيو

رست سفن الموت على شواطئ صقلية في عام 1347 حاملة وباء الطاعون الذي قضى على ثُلث القارة العجوز. لم يكن الوباء بالهين. لقد عانت الشعوب التي عاشت في تلك الحقبة من الخوف والمرض والفقدان والتشريد…إلخ. لك أن تتخيل شتى أنواع الألم. ربما كان ما بيد الأطباء هو إعطاء المرضى بعض المُسكنات، لعلها تُخفف آلام هؤلاء البؤساء، وهناك من كان يستعجل ساعته حتى يتخلص مما فيه.

نقلت لنا العديد من الروايات والكُتب ما حدث وما لقاه الناس وقتها. بالطبع لم تكن الإمكانات الطبية كما هي اليوم، حتى قد يعتقد البشر أبناء عصر الكورونا أنّ ذلك الوباء هين، لكن أغلبهم لم ينظروا إلى عامل الزمان..بالنظر إلى خسائر الأرواح بسبب وباء الطاعون، تُعطينا التقديرات ما يقارب من 200 مليون إنسان على سطح الكرة الأرضية راح ضحية هذه الجرثومة الطاعونية. ولكن عند النظر في الإحصائيات العالمية حتى الوقت الذي أكتب فيه (يناير 2021) وصل عدد حالات الموت بسبب كورونا ما يزيد عن 1.85 مليون إنسان. 

لا أنا ولا العلم ننكر خطورة مرض الطاعون، لكن كلاهما يتفقان في الشراسة. ربما نحن محظوظون لأننا نعيش في زمان يتقدم فيه الطب ووصل إلى مستوٍ عالٍ، في نفس الوقت لم يستطع هذا التقدم الهائل كبح لجام المرض كما ينبغي أو لنكن منصفين وواقعين، يتطلب اللقاح الفعّال حقًا فترة زمنية تتراوح ما بين 4 إلى 7 سنوات للتأكد من فاعليته. وكل ما ينزل إلى الأسواق الآن لم تثبت فاعليته بنسبة 100%. بعبارة أخرى، إنها حل مؤقت حتى يستطيع الباحثون الوصول إلى لقاحٍ أقوى فاعلية. 

لكن أحدًا لم يستمع 

في شهور الصيف لعام 2020، فتحت الدول المختلفة الحجر وبدأ الناس يستعدون لتعويض الخسائر. أظن أنهم اعتقدوا انتهاء الوباء أو أنّ الخطر قد زال من الأرجاء. بالرغم من التحذيرات الكثيرة وحملات التوعية، إلا أنني شاهدت الكثير والكثير ممن لا يرتدون القناع الواقي أو يستخدمون المطهرات المُوصى بها. أعلم جيدًا أنّ هذه الأدوات لا تقي بنسبة 100%، ولكنها فعّالة بنسبة كبيرة لا شك في ذلك. 

لقد نسوا الكمامة (قناع الوجه) في البيت 

عندما كنت أسأل أي شخص من معارفي أثناء قضاء أمر ما خارج المنزل عن الكمامة، كانت الإجابة الأكثر شيوعًا: “لقد نسيتها في المنزل”. حسنًا، تُرى كم شخص نسي الكمامة في المنزل؟ واحد؟ اثنان؟ عشرة؟ مائة؟ مليون؟؟ عشرة ملايين؟!!!! ياللهول حقًا. هل تعلم ماذا يحدث عندما يُصاب المرء بفيروس كورونا؟ 

لن أتحدث بشكلٍ أكاديمي يثير حيرة القارئ، لكن سأختصر الأمر ببساطة، عندما يدخل الفيروس إلى جسم الإنسان وينشغل الجهاز المناعي بمحاربته، يتعطل النقل الصحي للأكسجين إلى أعضاء الجسم المختلفة. وهنا مربط الفرس، أو الجزء الذي أريد توضيحه، حيث نقص الأكسجين. يحتاج المرضى في الحالات المتأخرة إلى أكسجين لتعويض النقص الذي سببه الفيروس، وفي الغالب يتم إمدادهم به من الخارج. وإذا لم يحدث، يشعر المريض بالغرق.. وتبدأ سلسلة من المعاناة حتى لحظة الموت. 

وسقطت الأجسامُ هامدة 

هل تعلم يا صديق أنه حتى يومنا هذا ما زال هناك من يعانون من الطاعون؟ بالطبع ليس كما في السباق بفضل التقدم الهائل الحالي، لكنه موجود. يظهر بين حين وآخر، ربما ليُذكرنا به، أو يحيي ذكراه. وعن كورونا، فكل يوم تذهب أرواح بسبب هذا الفيروس الصغير. لقد تعايشنا معه وتقبلنا وجوده، أجل لدينا معلومات حوله وعن انتشاره في كل مكان وعن طرق الوقاية منه، لكن هل التطبيق متاح؟ 

زملوني زملوني..دثروني دثروني..شدوا أزري..جاء موتي..أنا وحدي..وأنتم عوني..تُركت يدي..همد قلبي..رحت أبكي..سكت حسي..بقي جسدي..ذهبت روحي.

ربما نحتاج إلى حادثة أو موقف مأساوي يحدث بين حين وآخر لنتذكر خطورة الوباء وما قد يحدث لي أو لك أو للأشخاص حولنا، حتى لا تسقط الأجسام هامدة. لا تنتقد دون أن تنظر لحالك. لماذا نحتاج إلى صدمة لنعود إلى الواقع؟ لماذا ننسى؟ ولماذا يثور الإنسان لغرض ما وينسى أنه نفسه يُهمل هذا الغرض؟ 

أفكار كثيرة تدور في ذهني، أبرزها ما جال بخاطري وأنا أكتب في البداية عندما قال النبي الكريم – صل الله عليه وسلم -: “زملوني..زملوني”..”دثروني..دثروني”. هل عانوا كثيرًا أثناء الساعة الموعودة؟ هل أرادوا قول كلمة منهما وعجزت ألسنتهم من فرط البرد والعجز والغرق؟ لماذا جلست تلك المسكينة عاجزة؟ لا بد وأنها كانت تصرخ من داخلها قائلة: “وقلة حيلتي”.