أحمد السندري
أحمد السندري

د

منافقون ولكن…

أعلم أيها القارئ أنك لم تحتج على عنوان المقال (منافقون ولكن…) بعد؛ حيث لم تعرف بعد من هم الذين أقصدهم، وأنا على قدر كبير من اليقين أنك عندما تعرف ستستغرب كثيرًا، وستقول: ألم يجد هذا الكاتب مصطلحاً آخرًا ليصف به هؤلاء؟

وكيف تجرأ أن يصفهم بهذا الوصف؟ ومن الطبيعي أن أكون واثقًا من رد الفعل هذا الذي ذكرته إن لم يحدث ما لم أتوقع، ولكن ستجدني – بعيدا عن الوصف هذًا – منصفًا بعض الشيء، عندما تعرف أنني من ضمن الجماعة التي تقصدهم الواو في “منافقون”.

أستغرب من الناس – ومن نفسي أيضاً – الذين يمثلون أنهم سعداء، لا شيء يعكر صفو حيواتهم، يلبسون دائمًا وجهاً آخراً (ماسك)، وهم وسط جماعة يحاولون بكل ما أتوا من فرح كما قال محمود درويش أن يخفوا الحزن العميق، وكأن الحزن حمل ثقيل فوق أعناقهم غير مرئي..

وعندما يسألهم أحدهم ماذا حدث، وربما شعر بهذا الحمل عن طريق صوت نهجهم وإنقطاع أنفسهم أثناء الكلام وقد فضحوا أنفسهم دون قصد، يتأكدون من أن الماسك يعلو وجوههم ويتساءلون في نفوسهم هل لم أحسن دوري كإنسان سعيد؟

هل الحمل الذي على كتفي هذا مازال يرتدي طاقية الإخفاء هذه أم سقطت من عليه فصرت مكشوفًا للعامة لذلك كان السؤال؟…

أستعجب من هؤلاء حقًا، واعترافاً مني أنا ضمن هؤلاء الذين لا يجيبون على سؤال الذي هو (هل هناك ما يزعجك)، ويرفضون دائماً الجواب بنعم أنا مرهق جداً، أراهم على درجة ما من النفاق والذي يحملهم فوق طاقاتهم حملاً آخراً وهو حمل التخفي ونفي أي شيء يندرج تحت بند البوح، أو ما تسمى بالمشاعر أو ما شابه.

أعلم أن وصفي إياهم بذلك الوصف يثير غضبك الآن، ولكن لتكن منصفاً للحظة، ألم يكن هذا كذبا؟ ألم يقولوا ما هو ليس صحيحاً، وإني لعلى يقين أنهم يناقضون نفسهم في الحال فعندهم جوابهم بصوت عالي (أنا تمام)، يضحكون في نفوسهم قائلين بصوتهم الداخلي: (كيف.. لقد كذبت!).

قل لي أيها المحتج على هذا العنوان: كم مرة قالوا فيها ذلك وكان ما لم يقولوه عكس ما لم يعترفوا به؟ أقول لك أنا تقريبًا منذ أن بدأت البراءة التي ولدوا بها تتلوث.

وبعد ذلك ربما تتفق معي أن هناك هذا النوع من منافقين، يمشون بيننا في كل مكان، يصافحوننا بحرارة، نحدثهم عن أحوال الدراسة المتعبَة، وكم أن نفوسنا من ذلك متعبَة، السؤال هنا، هل قبلتَ هؤلاء؟ أعرف أنه لأمر صعب أن تعرفهم؛ ربما لأنك ممن لا يسيؤون الظن بالناس، ربما كنتُ واحداً منهم، هل عرفتني. لتفكر معي إذن أيها القارئ..

لماذا هم منافقون؟ بإفتراض أننا نتفق على هذا الوصف، وأنت تعلم أن هذا الأمر صعب جدًا بإفتراض أنك من ضمن هؤلاء المنافقين… وأنا أيضًا، (فلا تعايرني ولا أعايرك) والجواب واحد إذا سألنا أيضاً لماذا تكون البراءة في الطفولة فقط، وحتماً أنني لا أقصد الجواب بأننا حينها لم نتمتع بعقل يفصل بين الحق والباطل أو الصدق والكذب أو الحرام والحلال، السؤال أعمق من هذا، ربما هو لأن كل من هو لديه عقل ناضج ويحاسب على ما يفعل، يرتكب أخطاءً فتسلب منه شهادة البراءة، وشهادة الطفولة قبلها، لماذا نناقض أنفسنا فنقول ما ليس نشعره، ولماذا نحمل فوق طاقتنا ما يثقلها أكثر وأكثر؟

ولا أنسى أبدًا يوم جلست بجوار عجوز، فأخذت تتكلم عنها وعن أحوالها بشكل يراني المار علينا أنني إبن أخيها إذا أبعد أنني في ظنونه أنني إبنها مثلاً..

تحدثت بقلب مفتوح على مصراعيه، وأنا بين كلماتها مستغرب، من أنا بالنسبة لها لتقول هذا، من وقتها علمت أن هناك أناسًا يرون في وجوه الناس راحة فيقولون وحتى إن لم يجدوا فهم يبوحون أيضًا، هؤلاء الناس يحسدون على هذه الروح، وأقول ذلك لأني بحكم طبيعتي الريفية نرتاح جدًا لهؤلاء الناس (اللي في قلوبهم على لسانهم).

أتساءل الآن كما تساءلت وقتها، لماذا هذه العجوز التي (ارتحتلها جدًا)، لم تحسب ما تقوله وما لا تقوله، وقلت في نفسي ربما لأنها لا تبحث عن حل لما يحتاج إلى حل لأن ما حكته يندرج تحت أي مشاكل يتعرض لها الإنسان من أحوال لا تعجبه من أصدقاء أو أقارب أو زملاء أو حتى أمر سيء يحدث للإنسان دون أن يكون هناك طرف آخر من هؤلاء، وربما حسبت هذا جواباً منطقياً وقتها والآن؛ لأطفئ نار السؤال في عقلي لكي أنام تلك الليلة وهذه الليلة أيضاً لطالما تذكرت العجوز الآن.

عليك أيها القارئ أن تكف الآن عن رفضك أن أقول إن هؤلاء منافقون، وتنتقل معي إلى محطة أخرى كي ترتاح أنت من التعب وأنا كذلك، وتجاوب معي على سؤال قد ذكرته في فقرة مما سبقتْ، لماذا هؤلاء ينافقون أو بوصف أقل حدة من هذا يناقضون أنفسهم، وفي رأيي أنهم لديهم ما أسميه لنفسي (فوبيا الإستهزاء بالمشاعر).

هم إما أنهم جربوا يوماً ما أن يبوحوا فقابلوا جراء كلامهم استهزاءً زاد في الجرح وجعاً، أو أنهم وجدوا عند السائل من الأحزان ما يفوق حزنهم، فلم يجدوا براحا فحزنوا لذلك، أو أنهم جبناء، يخافون أن يظهروا ضعفاء أمام السائل وهذا نوع آخر من الفوبيا، وهذا سمِّيه أنت بما تشاء، ربما تسميه (فوبيا الإستهزاء بالنفس)، أجده اسماً مناسباً، أليس كذلك؟

ولهذا النوع الأخير من الفوبيا ربما لا يبوحون بشيء أبدا، وأنا شخصياً أخاف أن أقابل هذا النوع من المنافقين (المتناقضين)، لربما أرتكب شيئاً يضايفهم فينفجرون في وجهي، ويكون ما فعلته هو القشة التي قطمت ظهر البعير، وأكون سيء الحظ إذا كان هؤلاء الذين أخشى مقابلتهم سيدات.