محمد التايك
محمد التايك

د

المابعديات.. أو مذبحة المصطلحات والمفاهيم

ربما لا يحتاج الأمر نباهة أو حتى تدقيق نظر في الكتابات السياسية، الاجتماعية والفلسفية المعاصرة لننتبه لـ”غواية المصطلح” التي تسم هذه الكتابات. وليس من المبالغة في شيء القول إن هذه الغواية غدت فتنة اصطلاحية ومفاهيمية، أو مانصطلح عليه بتناحر المفاهيم؛ تدعي في مجملها تجاوزاً للأساس الأول، نفياً لما سبق أو قياماً عليه بعلة الاستجابة والتفاعل مع المتغيرات.

انقلب منها ما انقلب تحت ثقل عامل الواقع-الخارجي، أو بعامل داخلي-ذاتي رغبة في تغيير الواقع ذاته أو في اللفظ دون اختلاف يلتفت إليه في المتن.

إن النقاش حول الحداثة ومابعد الحداثة، سواءً باعتبار الأخيرة تجاوزاً ومرحلة جديدة أو استمراراً و اكتمالاً للمشروع قبله غير المنجز أو المحدد، الذي شكل، ولا يزال، موضوعاً “خصبا” للسجال، ليس إلا بداية، أو لنقل ألمع البدايات. تلته، وصاحبته، إنقلابات أخرى على “مفاهيم” ماكاد يؤصل لها حتى تعالت النداءات والكتابات بأنا قد تجاوزناها.
لا عجب إذاً من شدة ذيوع المصطلحات المابعدية؛ حتى غدا كل مفهوم محكوماً بتجاوزه، اكتمل تشييده أو لم يكتمل، ثبت ماينفيه أو لم يثبت.

إن نشوء المصطلح يعني تجاوزه بتجاوز المفهوم، والحاجة لخلق مصصلح جديد.

قد لا تبدو هذه النزعة جلية الوضوح في الكتابات العربية، إلا أن ماترجم إليها، أو مابقي في لغته الأصل الأجنبية، يشهد على “غواية المصطلح” هذه، على تطرف نزعة التجاوز، والواقع أنها أقرب مايكون للردة. ما مابعد المادية و مابعد الديمقراطية إلا نماذج أخرى في صف عريض للأمثلة.

انطلاقاً من ذات الرصد والتتبع لنزعة التجاوز هذه، يتنبأ محمود حيدر في دراسته عن مفهوم الجندر (رفعة المثنى.. تهافت الجندر) باحتمالية بروز “عبارة مابعد الجندر” في أمد قريب؛ لكون “المزاج الغربي بات أسير غواية الانقلاب على مفاهيمه ومصطلحاته”، بجانب علل أخرى.

لا تَعجَبن، إذن، إن استيقظت يوماً لتجد بعضهم قد تجاوز النوم، وصار يتحدث عن “مابعد النوم”. لا لشيء إلا لاختلاف في ميعاد نومه واستيقاظه!