ممدوح رزق
ممدوح رزق

د

جريمتا شارع مورج: تبرير قسري لنقيض “بو” وتناغم مع مثلية كونية

كيف لم ينتبه أحد إلى إنسان الغاب أو يشعر به طوال المسافة من بيت البحار الذي هرب منه، وحتى منزل السيدة ليسبانيه، وابنتها الآنسة كاميل حتى مع (هدوء الشوارع لأبعد حد)؟

أين اختفى ذلك القرد في الفترة ما بين مذبحة شارع مورج، والقبض عليه بمعرفة صاحبه البحار؟.. هل تبددت وحشيته المسعورة فجأة بحيث لم يترك أثرًا داميًا أو تخريبيًا واحدًا يشير إلى وجوده بالمدينة، وبالضرورة يكشف عن صلته المحتملة بمقتل الأم وابنتها؟

لم يجب الراوي في قصة إدجار آلن بو عن أسئلة كهذه لأنها تقوّض ذلك النظام الصارم من الفروق الملفقة بين قوة التحليل والبراعة الذهنية، والذي خُلقت على أساسه شخصية صديقه سي أوجست دوبان.. النظام الذي يمكن إنتاج نسخ مماثلة له دون حد، استنادًا أيضًا إلى اختلاقات صلبة من الفروق الناجمة عن إرادات شخصية مختلفة فحسب، مثلما ستتغافل تلك التحديدات كذلك عن الانقطاع البديهي الذي يفكك تماسكها المفترض من دون أن يخضع لمنطق أو توقع: الشرود المباغت خارج سياق التفكير نتيجة دافع مبهم أو مؤثر لحظي.. الومضة الذهنية التي تنتهك بشكل غامض ومفاجئ التسلسل المتناغم من التأملات الاستدلالية.. الذكرى المتنافرة التي تقطع الطريق على نحو ملغّز وغير منتظر أمام تدفق الملاحظات والاستنتاجات المترابطة.

لهذا لم يكن مفيدًا للراوي في قصة بو اختراع نماذج إثباتية لتلك الفروق، أو التأكيد المتكرر على انبهاره المذهول بعقلية صديقه دوبان.. وبتقمّص روح ذلك الصديق الذي تخيّل هذا الترتيب لتفكير الراوي خلال تجوالهما: “شانتيلي ثم كوكبة أوريون ثم الدكتور نيكولس ثم الفيلسوف إبيقور ثم علم قطع الحجارة ثم حجارة الشارع ثم بائع الفاكهة”؛ يمكن تصوّر ـ كمجرد مثال موازٍ ـ أن كلمة علم قطع الحجارة التي تفوّه بها الراوي أعقبها استدعاء لمشهد من الماضي كان يسير خلاله مع أبيه في شارع مرصوف بشكل مشابه، وأن ثمة أشجارًا في ذلك الشارع كانت تُشكل فروعها العالية مع غيوم السماء لوحة أخّاذة، وهو ما دفع الراوي للنظر إلى أعلى محاولًا استرجاع ذلك المنظر القديم، ومن ثمّ لم يكن غريبًا في تلك اللحظة أن يتذكر التنبيه المتكرر لأبيه الذي يمشي إلى جواره بضرورة أن يفرد قامته، وهو ما جعله يعدّل انحناءته ويسير منتصبًا.. ذكريات يفترض أن دوبان لا يعرفها، وقد تكون هي مصدر كل الأداءات الصامتة للراوي، ولهذا لا يكفي أن تكون ثمة معرفة مشتركة، أو معلومات تضمنها حديث سابق بين الصديقين حتى تكون استنتاجاته صحيحة.

لكن بو أراد أن يكون دوبان محقًا.. أن تكون كل ملاحظاته سليمة واستنتاجاته صائبة، بالرغم من أنه يمكن استبدالها كليًا بملاحظات واستنتاجات مغايرة لن تكون أقل صحة منها.. أراد أن يصوغ بشكل متعجّل وهزيل معلومة القبض على إنسان الغاب في نهاية القصة كأنما يواري جثتي الأم وابنتها بحفنة تراب أو بورقة جريدة أثناء عاصفة.

لماذا أراد بو ذلك؟.. لأن دوبان هو النسخة المضادة لـ “بو”.. لأن بو كما نعرفه في “القلب الواشي” أو “القط الأسود” مثلًا كان يحلم بقرينه المناقض.. يختبر العقلانية مقابل جنونه الدموي.. المنطق مقابل كوابيسه التدميرية.. كان بو يجرّب وحدته الغامضة في عناية نظير عكسي؛ يمتلك الوضوح المثالي والرصانة المنهجية.. ما الذي يثبت ذلك؟

بحث الصديقين عن كتاب واحد نادر جدًا واستثنائي جدًا في لقائهما الأول (يتعمّد الراوي عدم ذكر اسمه، ولكنه يثبت التحالف بينهما من خلال الاتفاق على أمر “نادر جدًا واستثنائي جدًا”؛ أي أن هذا الكتاب يعادل الذات الفريدة التي تكوّنت باندماجهما).. الكآبة الغريبة التي تميّز مزاجهما المشترك.. معيشتهما معًا في قصر بمنطقة مهجورة ومنعزلة.. عدم البحث في الخرافات التي أبقت القصر خاليًا كتوطيد للعقلانية.. انقطاعهما عن الزملاء والمعارف السابقين، والمتوّج بهذا التعبير الجوهري الذي يثبت أنهما ذات واحدة “كنا نوجد فقط داخل أنفسنا”؛ لم يقل “كان كل منا يوجد فقط داخل نفسه”.. إضفاء الراوي صفات مقصودة على دوبان مستمدة من عالم بو كالغرابة والجموح، دون أن تتجسّد بحدة دامغة في سلوكياته مقابل صلابة النزعة المنطقية لتفكيره.. استسلام الراوي لما أسماها “نزوات” دوبان، والتي يسهل بالطبع إدراك اتزانها المسالم عند مقارنتها بالنزوات الشيطانية في أعمال بو.

يمكننا أن نتأمل حرص بو على تبرير نسخته المضادة المتعيّنة في شخصية دوبان ولو بشكل متحايل باعتبارها تمثل ـ خاصة في ضوء مظاهر الارتباط الذهني والجسدي بين الراوي وصديقه في القصة ـ تمثّل نوعًا من التناغم مع ما يشبه “مثلية كونية” تلهم بها نظريات إبيقور التي تحدث دوبان حول إثبات علم نشأة الكون الحديث لصحتها.

الذرات كأصل الوجود التي يؤلف التقاؤها المركبات حيث أنها متحركة بذاتها وعلة حركتها موجودة فيها “كنا فقط نوجد داخل أنفسنا”.. الإحساس كصورة مطابقة للواقع تنشأ من اتصال بين جسمين “المزاج المشترك ـ العيش المنعزل في منطقة مهجورة ـ الانقطاع عن الآخرين”.. تولّد الفكر (اللذات العقلية) من الإحساسات (اللذات الجسمية) التي تعود جميعها إلى (اللمس) ومن خلالها يتم التوافق مع الطبيعة.

“بعد ذلك نتجوّل في الطرقات وقد تأبطت ذراعه مستمرين في مناقشة موضوعات النهار، أو نجول في كل مكان حتى ساعة متأخرة باحثين ـ وسط الأضواء المبهرة والظلال للمدينة المزدحمة ـ عن المتعة العقلية اللانهائية التي يمكننا الحصول عليها بالملاحظة الصامتة لما يدور حولنا”.

إن الطيف أو الخاطر أو الهاجس الذي تحفّزه أي من الألعاب والحيل والمكائد النفسية اللانهائية المجهولة، وغير المضمونة يمكنه أن يخرّب بصورة عفوية أكثر مسارات الاستدلال تيقنًا، وهو ما يجعل ذلك المُسمّى في قصة “جريمتا شارع مورج” بـ “قوة التحليل” و”البراعة الذهنية” متساويين ليسا في كونهما قادرين على التشابه فقط، وإنما في كونهما بالدرجة الأولى خاضعين طوال الوقت لجميع المؤثرات التي تدمج بينهما وتجعلهما يبدوان على غير ما اعتقدنا عن صورتيهما المنفصلتين حيث تتبدل دائمًا تلك التغيرات ليكوّنا وفرة من احتمالات تراوغ حدودها، ودون هوية مؤكدة.