رائد المقبل
رائد المقبل

د

حرق الروايات!

لا أحب قراءة المقدمة الموجودة في أول كتب الروايات. خاصة الروايات المعروفة أو القديمة، أو التي أخذت صيتاً عالياً، أجد في أول كتب الروايات مقدمة طويلة تتكلم عن الرواية، تحاول أن تمهّـد وتسهّل على القارئ قراءتها، لكنها في الحقيقة تفسد و(تحرق) على القارئ روايته!

لذا أتخطى قراءة هذه المقدمة وأتجه مباشرة إلى نص الرواية، وبعد انتهائي من قراءتها، و التفكير فيها وهضمها أعود وأقرأ المقدمة. وكل مرة أقرأ المقدمة (بعد انتهائي من قراءة الرواية) أحمد الله أنني لم أقرأها قبل قراءة الرواية، لأنها كانت ستفسد عليّ الدهشة الموجودة في الرواية!

هناك بعض دور النشر مشكورة تضع “المقدمة” إذا كانت تحوي على تفاصيل حارقة لدهشة الرواية، وتحوي على تحليلات ورؤى، تضعها بعد نهاية الرواية، باسم “ملحق” في آخر الكتاب. لكن ربما الدور التي تجعل الملحق أو المقدمة -مهما كان المسمى-، في بداية الكتاب تريد ضمان قراءة القارئ لهذا الملحق أو المقدمة! (والمقدمة يفترض من الأساس ألا تكون ملحقاً في مضمونها، ولكن!).

ربما هناك روايات معقدة جداً تحتاج إلى مقدمة توضح للقارئ بعض المصطلحات أو الحالة التاريخية التي كتبت فيها الرواية، أو معاني بعض أسماء الشخصيات، لأن بعض الروائيين يضع الاسم لمبتغى معين يريده، وقد تكون المقدمة لأي شيء ضروري جداً يستدعي قوله للقارئ قبل أن يشرع في القراءة. فلا بأس في ذلك، لكن دون نثر وبسط أحداث الرواية، وذكر التحليلات ووجهات النظر التي لا تنتهي!

الرواية غالباً وربما دائماً تحتمل التحليلات المختلفة، لكل قارئ نظرته المختلفة ومشاعره المختلفة، وقد تتغير هذه النظرة وهذه المشاعر أثناء أو بعد قراءته مرات متعددة، إذن لماذا توجه الأفكار والمشاعر نحو فكرة واحدة ونحو شعور واحد؟
القارئ له الحق أن يفهم فهمه الخاص، ويشعر شعوره الخاص، ويتلذذ بالدهشة التي تلاحقه ويلاحقها، وأيضاً بالرد على أفكار الكاتب أو الشخصيات التي استنطقها الكاتب.
في رواية “الأخوة كارامازوف” توقفت عن القراءة وكتبت رداً طويلاً في دفتر القراءة، أرد فيه على آراء طويلة قالها الكاتب في الجزء الثاني من خلال شخصية من شخصياته. في الجزء التالي من الرواية التي تتألف من أربعة أجزاء أجد أن الكاتب يستنطق شخصية أخرى ترد على الشخصية الأولى تلك بكل التفاصيل الممكنة، ولو لم أكن كتبت ردي الطويل فهذا الرد سيكون كافياً، لكنني وجدت أن ردي حرّك في ذهني وبصورة جادة، العديد من الحجج والبراهين والاستنتاجات لم أكن لأكتبها لولا هذا الاستفزاز اللطيف من الكاتب، الذي تأخر كثيراً في استنطاق الشخصية المضادة للرأي الأول. لقد استمتعت كثيراً في تلك التجربة.
ولو أنّ الكتاب حوى مقدمة تسرد هذه القضية الشائكة لما تحرّك ذهني أبداً أثناء الرواية!
لذلك التحليلات من الأفضل أن تكون دائماً في نهاية الكتاب، وللقارئ الحرية بعد ذلك، هل يريد قراءتها أم سيكتفي بأفكاره ومشاعره الخاصة. أنا أحد الناس الذين سيقرؤون جميع التحليلات، وربما سأبحث عن كلام وتحليلات أخرى، لكن بعد انتهائي لا قبل بدئي.
في مقابل ذلك وجدت في رواية “الصخب والعنف” لويليام فوكنر. مقدمة لابد منها، ولو لم أقرأ المقدمة لما فهمت الرواية أبداً، فكانت المقدمة دليلاً لي كي أفهم، ورغم قراءتي للمقدمة قبل البدء بالرواية، إلا أنني لم أفهم الرواية بشكل كامل حتى بعد الانتهاء منها، توجهت إلى المقدمة وقرأتها مرة أخرى، وتمعنت وتفكّرت في النقاط التي لم أفهمها حتى فهمتها في النهاية. لذلك كانت المقدمة ضرورية جداً في رواية مثل رواية الصخب والعنف.

كثير من المرات أشعر أنني أريد قراءة المقدمة قبل بدئي، لأنها فقط موجودة في البداية! وكثيراً ما أغضب لأن المقدمة أحرقت على نفسي حدثاً معيناً، أو قضية معينة، وسلبت مني دهشة كنت سأستمتع بها أكثر لو لم أكن قرأت المقدمة. لكن لا بأس، لا مزيد من قراءة المقدمات.

نجد مراجعات واقتباسات في وسائل التواصل تحببنا إلى قراءة بعض الكتب، وأصبح لدى كثير من أصحاب المراجعات والاقتباسات الوعي الكامل واللازم في عدم إفساد أو (حرق) الرواية على القارئ.
إذن لماذا تفعل ذلك بعض دور النشر!