أسامة حمامة
أسامة حمامة

د

درسٌ مُستفاد: العيش وحيدًا ليس بذاك السوء!

ساقتني الظروف منذ بداية سنة 2020 إلى قبول فرصة عمل في ضواحي مدينة بعيدة نسبيا من العاصمة، لم تكن تلك تجربتي الأولى في السكن بمفردي، لكنها كانت فعلا أول مرة أحس فيها بأنني شبه منفصل عن العالم الخارجي، فالمنزل الذي كنت أكتريه يقع في مركب عمراني جديد مليء بالفلل villas، وأغلب أصحابها يعملون ويقطنون في أمكنة أخرى أو في بلاد المهجر، ولا يأتون إليها إلا في نهايات الأسبوع أو العطل الصيفية.

كان مؤنسي الوحيد من البشر في ذاك الحي الصامت، بقال أنتقل إلى دكانه أسبوعيا لشراء ما أحتاج من أغراض، وذلك مرة أو مرتين فقط، فالمسافة بين المنزل ومتجره طويلة، تستدعي مني المشي زهاء ساعة من الزمن، كنت أذهب إليه في البداية على متن دراجة هوائية، لكن أحدهم سرقها من شرفة المنزل بطريقة ما، حدث ذلك أثناء زيارة خفيفة للعائلة قمت بها بمجرد سماعي عن رفع بعض قيود التنقل التي فرضتها حالة الحجر الصحي.

لم يكن البقال من محبي الكلام، لكنه عبّر لي كذا مرة خلال محادثاتنا القصيرة عن امتعاضه من فكرة إنشاء هذا الحي الجديد في منطقة قروية بامتياز، وحكى لي كثيرا عن استيلاء ملاّك تلك الديار الإسمنتية الفخمة على بقع أرضية فلاحية تعود ملكيتها في الأصل إلى الساكنة المحلية، وكيف لم تستطع هذه الأخيرة الدفاع عن حقها أمام الوافدين الجدد، الذين استقووا بما أوتوا من سلطة وحيلة، ولجؤوا إلى التزوير وغيرها من سبل الخداع لنهب تلك الأراضي. ذكرتني قصة القرويين الحزينة بحال الفلسطينيين، الذين تغتصب أرضهم عنوة بعد أن تسلل إليها المحتلون بطريقة “حصان طروادة”.

أما حكايتي أنا، فتبدأ فصولها مباشرة بعد ولوجي المنزل بعد يوم عمل مضن، لم يكن يشفع لي العناء في تمديد فترة الراحة، فقد كنت أستلقي على الأريكة بالكاد لبضع لحظات قبل أن أقوم مرغما لإعداد الطعام سريعا وغسل ملابسي التي يطالها الغبار بشكل يومي، ثم أختم “مهامي المنزلية” بتعقيم مياه الشرب التي سأحتاج في اليوم الموالي، لأن مياه البئر المحفورة حديثا لم تكن صالحة للشرب بتاتا، ولم يكن بمقدوري شراء قنينات مياه معدنية في سائر الأيام، نظرا لغلاء سومة الكراء ومصاريف التنقل إلى مقر العمل التي ألفي نفسي معها بجيوب شبه فارغة بحلول نهاية كل شهر، كما أن صاحبنا البقال كان يرفع أثمنة بيع معظم المنتجات ليعوض بها ندرة الزبناء وتكاليف جلب البضائع إلى ذلك المكان النائي. لم أجادله قط، ولا فكّرت في لومه حتى مع نفسي، فقد كان أقرب صاحب محل هناك، بل الوحيد، والبحث عن محلات مجاورة سيتطلب مني مبالغ إضافية للتنقل تجاوز ما سيجنيه صاحبنا البقال من “الضرائب الشخصية” التي استحدثها.

قلّ احتكاكي بالناس، وألفت استغلال وقت الفراغ للمطالعة أو القيام بجولة حذرة في الغابة المجاورة، فقد عرفت بكونها منطقة قنص موسمية تتواجد بها خنازير برية وثعالب وكائنات أخرى، وقد أخبرني البقال أن أصحاب الفلل يترددون على منازلهم خلال موسم الصيد محملين بالبنادق وعدة التخييم وصناديق الجعة، ويقيمون حفلات شواء ليلية تستمر إلى ساعات الصباح الأولى. لكنني صراحة لم أشهد ذلك، ربما بسبب تفشي الجائحة التي أوقفت جميع الأنشطة.

لا أنكر أنني تعلمت الاعتماد على نفسي أكثر من أي وقت مضى، وما زلت أتذكر حين أسقطني المرض يومها طريح الفراش، تجنبت كليا مهاتفة الأسرة مخافة التسبب في جزعهم، وحتى في المرات التي حاولت فيها الاتصال للطمأنة والاطمئنان بعد التعافي، خانتني تغطية شركة الاتصال، التي كان ضعفها يضطرني إلى الخروج من البيت والصعود أعلى تلة أملا في إشارة أقوى، أما الإنترنت، فلم يكن متوفرا إطلاقا. اخترت العيش بدون تلفزيون، ساعدني ذلك في التركيز على عملي الذي تنتهي عقدته بمتم نونبر، كما أنني ما كنت لأجد وقتا لمشاهدته أساسا، وكنت أكتفي بسماع الراديو على الهاتف أو في السيارة المهترئة التي يأخذني سائقها إلى الشغل كل صباح، كانت بالنسبة لي “خردة متنقلة”، لكنني لم أجد عنها بديلا وسيلة للسفر، فصاحبها كان الوحيد الذي يمر من أمام مكتب الدراسات الميدانية الذي أعمل به، والذي أقيم مؤقتا في تلك المنطقة ريثما يستوفي إنجاز مشاريعه البحثية، ليغير بعدها الوجهة إلى موضع آخر.

صارت تنتابني ومضات من هذه التجربة الحياتية المميزة منذ رجوعي إلى منزل العائلة قبل 20 يوما، لا أكف عن التفكير في تفاصيل عيشي وحيدا، والتمعن في كل تلك المفارقات العجيبة، مقارنة بسيطة بين المدة التي أمضيتها هناك وبين “حياة المدينة” التي ألفتها، تجعلني أشعر بالامتنان لتلك الأشياء التي تبدو صغيرة في نظرنا، فلا نعيرها اهتماما ولا نحس بقيمتها حتى نفقدها، نعتبرها من المسلمات لأننا لم نعتد غيابها، هذا ما حصل معي تماما، كان اختبارا ملهما للنفس وكاشفا لنواقصها ومكامن قوتها، أشعر بالفخر لأني استطعت الصبر في تلك الأوضاع والتكيف معها، كما أنني أدركت أن باستطاعة الإنسان الاستغناء عن ثلة من الأمور المادية الثانوية التي تقدم إلينا على أنها “ضرورية”، يشمل ذلك الجانب اللامادي أيضا، فـ “عزلتي الاجتماعية” التي استمرت قرابة عام، أعطتني مهلة لمراجعة الذات وتخليصها من السموم النفسية التي راكمتها جراء علاقات إنسانية فاشلة، وقد عثرت في نفسي على مواهب لم أكن أعلم بوجودها، كإتقاني للإصلاحات المنزلية من قبيل الصباغة والبناء والأسلاك الكهربائية، فضلا عن الطبخ الذي شجعت نفسي على تعلمه في تلك الفترة، وها هو ينفعني الآن في توفير أكل صحي لي ولأفراد الأسرة، التي ما فتئت تعلن إعجابها بالوصفات التي أحضرها منذ “العودة من المنفى”.