غادة العمودي
غادة العمودي

د

درسٌ مُستفاد: من بين كل الأعوام

من عادتي أن أنبش الكتب والأيام، فمن الأولى أستلهم عبرة الزمن، ومن الثانية أحصد لذيذ الفكر. لكن هذا العام، من بين كل الأعوام، قد كسّر القوانين، وأرسى فنّه العالي.

هل ترانا سنصنفه، ونحن المولعين بالتصنيفات، بأنه عام كورونا! بالمناسبة، فقد أنشأت مدونة أيام الحظر التي استمرت لدينا أربعة أشهر، بعنوان “الكتابة في زمن كورونا”، وأراني لا أنوي أن أمحوها من ذاكرة الويب.

ومع كل ما ألصق بعام 2020 من شؤم وترهات وقراءة لأوراق الحظ وتفسير للكواكب والأبراج، غير أنني كتبته في الصفحات الأخيرة لدفتر مذكراتي لهذا العام بأنه : العام الذي أصلحته فيه نفسي! أو تصالحت فيه مع نفسي، أو صالحتني نفسي وعادت لي بعد طول غياب.

لست صاحبة النية السيئة، ولكن في ظني الذي يشاركني فيه كثيرون؛ أننا كنا بحاجة إلى أن يتوقف كل ما حولنا لنعود لداخلنا، الضجيج الخارجي كان يقطع الأيام فينا دون أن نملأها بنا؛ التغيرات الجنونية في سوق العمل والتوظيف، الازدحام في الاختيارات ما بين حياة شخصية وحياة عامة، الفوران العبثي لاستعراضات الميديا الاجتماعية، عدا عن تعريجات تدخل في متاهات وتخرج من حيرات متصلة، حياتنا كانت كومة من اللا-اعتبار، إن هي إلا الاستمرارية، والسيرورة، والإنهاك.

بدأت أعتبر من قيمة دروس هذا العام، حين أصبت مبكرا بكورونا، كانت الأعراض خفيفة وانمحت سريعا بحمد الله، إلا أنها جعلتني في إشفاق على نفسٍ كنت على مظنة أن أفارقها دون أن أعيش في كنفها! غربة عتيدة ترافقنا ونحن ننمو في طموحاتنا -التي هي في الغالب تنمر الخارج علينا-فلا نحكم التمييز بين ما هو لنا، وبين ما يراد أن يفرض علينا.

أهذه هي النهاية! هل تراني سأرحل ولم أجب بعد على السؤال: من أنا؟ السؤال الأقل تراجيديا في أطروحات الفلسفة، وأعلاه تعقيدا في مختبرات العلوم والطب.

كان كافيا في إجابة هذا السؤال أن أجلس وحدي، في صوتي أنا، في تصوري أنا، في وقتي أنا…في صمت كل غير غيري!

غمرتني النعمى الجزيلة لجلال وجمال ما أنا عليه من تكوين وسجايا، حتى عندما لم آخذ نفسي بتعهدات التربية الصارمة؛ فقد بدت في ذاتها جميلة لأن الفطرة لها جمالها المحكّم.

كتبت كما لم أكتب من قبل، نشرت في أكثر منافذ الويب -وكلنا يعلم أنها كانت وجه الحياة المتحرك الوحيد في هذه المحنة- تحدثت وناقشت وعقدت حوارات مع أقداري فيما ظهرت أنها الأنفاس الأخيرة تنطلق مني، ثم أحببت! أفرطت في حبي، أدمجت فيه كل قصص الفانتازيا والبطولة والعشق الإلهي، فكان الحب خير رفيق وأنا أخرج من العتمة نحو نفسي! نعم، فقد صارت نفسي نورا، ولها نور.

أقصى ما نقوله في درسنا المستفاد هذا العام، هو التوقف في اللحظة، الحضور في القلب، الامتثال لتيارنا الداخلي، أن نترك للغَمرة العميقة أن تحيطنا بلطائفها، وأن نستسلم، وأن نستمع، وأن نكف عن التعليل! لقد تركت نفسي لها فعرّفتني أني لست بنكرة كي أسعى لإثبات وجودي عبر وجودات خارجة عني. ولعله وافٍ جدا جدا، لفتاة أول ما أدركت الحياة؛ أنها صراع لإثبات الوجود، وجودها، من بين: العادات والتقاليد، من بين ثنايا التاريخ، من بين إملاءات الأفكار، من بين حرمان متصل للحيوية الأنثوية ذات الكيان المستقل.

في صراعي مع كورونا، بدا لي العالم مفلسا من تقديم المعونة، لم يعد يكترث بأن يطلق علي أحكامه فيما يجب ولا يصح أن أفعل، الكل كان مشغول بذاته، مفطور على حياته، هلع مخبول مهووس بهبة العيش، أن يعيش وفقط!

الميت في كورونا شهيد، هكذا ظهرت إحدى الفتاوى، فلقد تخيلنا أنه الطاعون قادم لنا من طواعين التاريخ المتعددة، حين كان الناس يموتون في الشوارع ولا يدفنهم أحد، إذ قد ضاقت بأهلها القبور! صور مخيفة كانت أشد علينا من كورونا وشراسته. إن عادة كتابة سيناريو الأحداث بدت قميئة جدا أيام كورونا!

ثم هدأت، عادت لي حياتي، وعدت أنا لنفسي، ووسط الانشغال العالمي عني امتلأت بي، واحتفلت بي، واستقبلت رجوعي لذاتي بكل الحفاوة، حقا، إن أنفسنا تستحق كل الحفاوة.

هكذا كان عام 2020: عام “نفسي” بامتياز.. شكرا جزيلا 2020، ذكراك الوردية لن تنمحي من ذكرياتي، فقد أتيت على اللون الذي أحبه: لون الورد الدافئ، وهو اللون المفضل لأن نهديه من نحبه الحب العظيم.