فاطِمة السر
فاطِمة السر

د

الحياة بين ضريبة التفاؤل وعوائد المُعاناة!

لكُل مَن أرهقته الحياة وضاقت بِه الدُّنيا وظنّ أنّها لا تُفرّج…

الحياة بين ضريبة التفاؤل وعوائد المعاناة

أربعة عشر عامًا

أبلغُ مِن العُمر الآن أربعة عشر عامًا ونيف، وها أنا في أحضان الأزقة وزحمة الشوارع أجول بنظري نحو أعيُن المارّة؛ لعلّي أجدُ فيهم مَن يشتري مني بعضًا من الليمون لآخذ بثمنه خُبزًا أستمد منه قوتي…

“أعلمُ تمامًا بأن الدنيا لم تنصفني، بل جعلت مني شخصًا فقد أمه وهو لايزالُ رضيعًا! 

تركتني أمي وسط أخ وحيد وأب لا يعرف للأُبوة شيئًا؛ كنت أرى أبي مرّة كل ثلاثة أيام؛ فبعد أن تزوج ورفضت زوجته أن نسكُن معها، بات يأتي إلينا في مرّات قلائل يحمل معه بعضًا من الطعام لا يكفي لإشباع قطة! 

لم يكُ لي أقارب أو لم أكُ أعرفهم، فوالدي دائمًا يرفُض أن يُخبرنا السبب من وراء ذلك…

وفجأةً، بات أبي دائم الغضب، كثير الضرب وضيق الأخلاق، كان يُؤلمنا بضرب يكسر العظم ويسيل الدم، ومِن ثُمَّ مضت فترة طويلة على غياب والدي لدرجة أننا لم نعد نذكره، آه لا يهم؛ فيبدو أنه غاب للأبد.

لكن يا رباه، كم تحرقني دمعتي كلما رأيت أبًا ليّن القلب يحنو على أطفاله، فأين أنا من نعيم الأب!

الحياة وأخي الوحيد..

كان رفيقي الوحيد هو أخي، ولأنّي لم أدخل المدرسة فكُنت اتلقى كل تعليمي منه إلى أن ترك أخي المدرسة وقرر العمل، كان أخي يعود مُنهكًا من عمله المتعب الذي لطالما سعى لأجل الحصول عليه، كُنت أرى أثار الهم تطفو فوق عينه وتزداد يومًا بعد يوم…

يوصيني دائمًا بألّا أتعب ولا أشقى وهو سيقوم بكل شيء؛ كان يردد ذلك دومًا بكل أمل غير مبالٍ بصعوبة حالتنا المادية والجسدية والنفسية أيضًا!

وفي ليالي الخريف الحزين وبينما كُنا نيام سقط الحائط علينا، ولأن أخي أنقذني؛ فبُترت يدي ونجوت أنا ولكنّ، مات أخي!

يومها لم أجد من يواسيني ويقدم العزاء لي؛ فما المدفون إلا كُلي، وما المقبور إلا صبري وسعادتي، وما الموءود إلا أحلامنا وأمانينا التي رسمناها معًا!
رحل أخي وتركني عاريًا في برد الحياة القارس أبحث عن دفء أخٍ رحل بلا عودة…”

فأنا اليوم بلا أم وأب وأخ، وبلا يدٍ أيضًا، أنا هنا وحدي!

يا ترى هل سيتغير الوضع أم سأبقى على حالي للأبد؟

آه، لا أدري فأقصى طموحي أن أجد لحافًا يضمني وطعامًا يملأ معدتي… آه، رغم أنّي أملك من التفاؤل والأمل ما يكفي للعيش بسعادة طيلة الحياة؛ ولكنّي لازلت أتعثر وأصطدم بعتبات محطاتها!    

أربعٌ وعشرون

عمري الآن أربع وعشرون سنة أو ينبغي القول أربعة وعشرون وجعًا و وحشة…

ضجرُ الحياة يُضيق الخِناق فما بالُك بامرئ مثلي؟!

ولأني لم أجد عملاً جسديًا يتناسب مع مَن له يدٌ واحدة مثلي؛ فقررت أن أُكمل تعليمي، أو إن صح القول أن أبدأ تعليمي! 
وأنا اليوم طالب عِلم في الصباح وفي المساء عاملٌ متجول؛ تارة أنظف وتارة ألمع الأحذية وتارة نادل…

ويا حسرتي!
لقد رسبت مُجددًا في إمتحانات الشهادة الثانوية، فقد كان يصعُب عليّ أن أدرس وسط مضايقات مَن هُم أصغر سِنًا مني، ووسط الشوارع والكلاب الضّالة وبعض المتسولين، وزاد الأمر سوءًا حالتي الصحية التي تدهورت كثيرًا إثرّ اشتياقي للطعام ولشُربة ماءٍ نقي…

لكن، كان علي ألّا أتخلى عن حلمي وكان لزامًا عليّ أن أكون مُبرمجًا إلكترونيًا، فلطالما كانت أسمى أحلام الصغِر أن أمتلك لعبة إلكترونية واحدة فقط! 

لذلك تجاهلتُ الكثير من الكلام السلبي والمُحبط ونظرتُ إلى الإيجابية فقط، وبعد الكثير من المحاولات الفاشلة ها أنا الآن قد نجحتُ، وبحمد لله التحقتُ بكُلية الحاسوب! 

ولكن، مَن أنا؟ 
أين أصلي وهويتي؟ 
يتلعثمُ لساني كلما سألني أحد عن أهلي وعشيرتي؛ بِتُّ أتجنب الساحات و أعتزل بمفردي خوفًا من جواب عقيم؛ أجلس لمحاضرتي فقط ثم أُغادر الحرم الجامعي فورًا وأذهبُ للعمل.

لكن يالله، مَن أكون أنا؟

كان على عاتقي مهمة البحث عن أصلّي وقبيلتي، فمِن أين أبدأ إذن؟

أربعٌ وثلاثون

أكتب هذه المذكرة وقد بلغ عمري أربعٌ وثلاثون خيبة، ها أنا ذا في غربتي… غريبٌ اتخبط بموانئ غير موانئ بلادي، غريب أجول وحدي بشوارع غير شوارع بلادي؛ بلا حضن دافئ يضمني، أو صديق صادق اشكو له همي..

كل ما أملكه في يدي الآن شهادة تخرج فقط، لكنّي فقدتُ الكثير، الكثير جدًا…
لا أحمل في جيب ذاكرتي إلا الشيء القليل من بقايا وجه أخي و… وهي!

الحياة بين ضريبة التفاؤل وعوائد المعاناة

“أذكر ذلك اليوم الذي رفضني فيه والدُ فاطِمة بعد أن تقدمتُ لخطبتها ثمانِ مرات!

وكان يعلل ذلك بعدة أسباب، بعد أن يحيطني بسيل من التفسيرات والحُجج، كان لدي أمل دائمٌ بأنها سوف تكون لي، ولكنه تبخر بعد زواجها… وقتها حلّ بجوفي ذات المأتم عند وفاة أخي، وبداخلي نكس سواد الحِداد ذاته!

كانت الحياة تضيق حتى يتراءى إليّ أنها لا تسعني، فرُّحت أجوب الشوارع بلا وجهة وبلا مأوى.. إلى أن قابلت رجلًا ودار بيننا حديث تعارفي، وصار يثني علي ويمتدحني بأسمى العبارات والتبجيلات، عن قوتي وصبري وشغفي وإيماني…

كان يبدو عليه أنه رجل صالح، لكنّي لم أكترث لما حدث في ليلة التعارف؛ فلحظات التعارف لن تكشف لك إلّا جُزءًا بسيطًا من شخصياتهم!
وبعدها، عرّضَ عليّ العمل معه على شراكة ثم نقتسِمُها فيمّا بيننا، لكنه فرّ وهرب كحال كل مُجرم خادع!
أمّا عن أمر عشيرتي وأهلي فشآءت الأقدار أن أجدهم ولكن بعد أن حلّ الجفاء و قُطعت أواصر المحنة.”

لم يحزنني الله يومًا، ولكنّها الدُنيا جعلتني اليوم في مكان غريب أغترب…

أربعون عامًا في الحياة!

أربعون عامًا، يا له من رقم هائل، ولكن الإنجاز عظيم وكرُم الله أعظم، أقوم الآن بفتح فروع لشركتي في أماكن متعددة…

فبعد أن أنهيتُ الدراسات العُليا في عِلم تقنية المعلومات، بدأتُ في إنشاء شركتي الخاصّة، فشلتُ ثلاث مرّات في إنشائها ولكنّ في المرّة الرابعة نجحت وكان النجاح عالميًا!

لم يكن الأمر سهلًا ولكن بالصبر والكفاح سهُل، وأيقنت أن سر النجاح هو الثباتُ على الهدف واستخلاص العبر من الفشل، وتأكدت أن الإخفاق بشرف خير من النجاح بفشل.

أما عن خوفي فقد كسّرتُ حواجز الخوف والرهبة من الناس وحواراتهم اللانهائية، وصرت أتحدث عن حياتي مرفوع الرأس بلا خجل أو ذلة، وصرت مُحاضرًا مؤثرًا لدى كثير من المنصات التحفيزية والعالمية!

وأمّا يدي فقد تأقلمتُ بالعيش معها وعند الضرورة أرتدي يدًا صناعية صممتُها خصيصًا ليّ.. أما قلبي فقد فاضت ضفافه أنهارًا وأزهر بها كل ما بداخلي؛ فبمعجزة ما تطلّقت فاطِمة، ووافق والدُها على زواجنا، فسبحان الذي بقدرته قد لان قلبه واستحال كل ما كان يحمله من رفض إلى قبول ومحبة، فبعد سنين عجاف ها نحن الآن والِدان لعُمر و نُور.