هبة الله حمدي
هبة الله حمدي

د

فيلم The Platform.. أن يكون الجنون حلًا أمثل!

  • أن تشاهد فيلمًا مُتأخرًا ..خيرٌ من ألا تشاهده

أعتـقد أن هذه هي الفكرة التي تملكتني ،بعد أن شاهدت الفيلم الأسباني (the platform)

الذي أُنتج عام 2019 ولتوي شاهدته في العام 2022 الفيلم من تأليف بيدرو ريفيرو وديفيد ديسولا .

مَدخل عن القصة :

تتحدث القصة عن رجلٌ يستيقظ ليجد نفسه في ما يشبه الزنزانة يُرافقه شخص واحد في ذاك المكان الذي تتوسطه فتحةٌ مستطيلة الشكل بالنظر من خلالها نجد أن المكان مكون من طوابق لا حصر لها جميعها صممت بذاك الشكل ،من خلال حديث البطل مع رفيق زنزانته نعرف أنه جاء مُختارا ليحصل على دبلوم ،أما الآخر فقد ارتكب جرما قتل مهاجرا غير شرعي وحين خير بين مشفى المجانين والحفرة اختار الحفرة ،تمر من هذه الفتحة طاولة طعامٍ عامرة تقف في كل طابق لدقيقتين وعلى الجميع أن يأخذ حصته لتهبط للطابق الذي يليه .

قصة الفيلم تحتمل أكثر من تأويل  ،ويمكن أن أقول أن الفيلم دعوة لإمعان البصر ،للتأمل ،لسبر أغوار البديهيات ربما ،ويبقى الثابت أن الفيلم عبقريٌ لتدقيق النظر في الحياة والعالم والنفسية البشرية أيضا !

الحياة طوابق ،من بالأعلى ومن بالأسفل :

أعتقد أن عبقرية التصوير كانت في اختيار جعل الطوابق بشكل عمودي ،ليس أفقيا أو متجاورا مثلا ،فالتمايز بين البشر يجب أن يتجلى ، طبقات عُليا و دُنيا ،وسيترتب على ذلك كل الأمور الأُخرى ،ويتشكل وعيُ كل فرد لنفسه وللمحيطين ورؤيته لهم تبعًا لطبقته ،فيحقد على الأعلى ،ويدرك أنه لا مفر من تحسين وضعه سوى بالصعود للأعلى !

بطبيعة الحال ،نعم !

أول ما تلحظه من رمزية هي في إجابة رفيق غودينج في الحفرة والأقدم منه في المكان بأشهر طويلة على جُل أسئلته بعبارة (بطبيعة الحال )

– ماذا سنأكل

بطبيعة الحال ،بقايا من فوقنا .

– بطبيعة الحال ،الأمر يتعلق بالطعام .

لو اعتبرنا بأن هذه الحفرة هي هذه الدنيا ،فإن ثمة أمورٌ تعارفها البشر والمجتمعات ،فالأمر دائما يتعلق بالطعام ،بمصادر الأكل ستتلهم الطبقات الأدنى بقايا من فوقهم ،سيتقاتل البشر على الطعام ،أليس تاريخ البشرية أجمع يمكن تلخيصه في الصراع على موارد المأكل والمشرب !

لكن وبإمعان النظر في تلك البديهيات وكما قالت إمرأة كانت في الأصل مُنسقة استقبال الأفراد الجدد في الحفرة ،لو أكل كل فردٍ حصته سيكفي الطعام كل نُزلاء الحفرة ،هل كان الأمر على مدى الزمن يتعلق بطمع الإنسان في أكثر من حصته !

  • التضامن العفوي :

خلال أحداث الفيلم ،نعرف أن إدارة المكان أسسته لخلق ما أسموه (التضامن العفوي) لتغيير البشر وجعل كل فرد يُحس بغيره ،فلا يستهلك أكثر مما يحتاجه ،ولا يؤذي من أسفله ،لأنه قد يكون في الشهر المقبل أسفل من يعلوه هذا الشهر .

يقولرالبطل هازئا بأن التغيير لا يكون عفويًا قط ،وأن خلق هذا التضامن العفوي سلميًا بالتعويل على تعاطف الإنسان مع جاره الإنسان أمر غير واقعي .

وربما يُحيلنا ذاك إلى تحليل آخر ،وهو هل الإنسان وحش بطبعه ؟ همجي ؟

لا يمكن ترويضه إلا بالقوة و التخويف ،فقد تجلى هذا واضحًا في مشهد الفيلم الذي كانت تحاول فيه السيدة افناع الشخصين اللذين بالأسفل لتقسيم الحصص لكنهما لم يستجيبا إلا حين هددهما غودينج بالتغوط على طعامهما !

هل الإنسان كائن سيء وأناني بطبعه رُبما يبدو الأمر سلسا وعاديا في الظروف الإعتيادية لكن حين يصير الوضع خطرًا ،كما شاهدنا إبان جائحة كورونا إذ فرغت المتاجر والأرفف من المؤن الغذائية وفكر كل فردٍ في تأمين حاجته ،دون أن يجول بخاطره حتى بقايا أفراد مجتمعه !

الطابق صفر :

في الطابق صفر يُعد الطعام بمنتهى الدقة والإتقان ، الطهاة خلية نحلٍ تعمل ،كل شيء بقدْر ،لا مجال لخطأٍ أو سهو ،لكن ما إن تبدأ المائدة رحلة هبوطها حتى تعتريها الفوضى ،أياد تنتش الطعام نتشًا ،يخرب تنسيق المائدة في ثوانٍ معدودة ،الفوضى والغوغائية هما ما يحكمان سلوك البشر فينعكس ذلك على الموجودات حولهم .

بإمعان النظر في فكرة هذا الطابق ،تجد أنه يتبع إلى الإدارة العليا لهذا المكان ،الحاكمة له ،المُسيرة لأمره ربما يشير إلى العالم الفوقي ،ما وراء الطبيعة التي تسير هذا الكون تبعًا لرؤية كل الأديان على اختلافها ،حيث الدقة والتنسيق ،لكن ما إن يهبط إلى الأرض حتى نجد الإنسان ذاك الكائن الذي تقوده غرائزه يعوث فسادًا وإفسادًا ولا تحاول الطبقة العُليا التدخل ،هي فقط تقف مُتفرجة .

واستكمالًا لهذا الأمر نجد في نهاية الفيلم ذاك الطفل الذي أجزمت موظفة الإدارة ألا وجود أبدا لمن هم دون السادسة عشر ، فهل كان هذا سهوًا من الإدارة ، أنه وحتى الإدارة العليا التي لا مجال للخطأ لديها سقط طفلٌ سهوًا في تلك الحفرة دون أن تنتبه ، ربما يريد الكاتب أن يشير إلى أن هذا النظام الذي يبدو دقيقًا من الخارج ، ثمة نقص أو سهوٌ فيه حتى وإن بدا في ساعاته الأولى كاملًا منزهًا عن النقصان .

المُذنب والبرئ كلاهما في ذات الحفرة :

غودنج دخل الحفرة بريئا ورفيقه مُذنب ، ربما أراد المؤلف أن يسلط الضوء على نوعي الإعتقاد المختلفين فالنصارى يرون أن الإنسان يولد حاملًا ذنب الخطيئة الاولى ،لكن لدى المسلمين وغيرهم فالمرء يولد غير حامل لأي ذنب ،لكن المُحصلة أن الجميع يلقى ذات المعاملة ،نفس الوضع دون تمييز ،فالدنيا في النهاية مكانٌ تجري فيه الامور بعشوائية ،يُقسم البشر في الطوابق دون ترتيب ،يُقاسون ظروفًا معيشية صعبة ،يدخلون الحفرة ثم يخرجون وانتهى .

الُمنقذ :

لكن ماذا إن فكَر أحد في مد كفٍ بيضاء لهذا العالم لإنتشاله من غياهب اللاعدالة ،هذا ما حدث إذ قرر بطلنا ورفيقه الجديد في الطابق أن يُحررا الوضع في ذاك المكان اعتلوا مائدة الطعام ،يُقسمان الحصص بالتساوي ،مُقررين أن يصعدا في النهاية إلى تلك الإدارة ليثبتوا فشلها ،إذ لم تنجح تلك الطريقة أبدا لخلق التضامن العفوي بل صار المكان محلًا للجنون !

ينزل بطلنا ومع هبوطه تتجلى حجم الغوغائية والدموية ،فالجوع جعل الإنسان يأكل أخاه الإنسان -حرفيا- والعُزلة طمست عقول البعض ،حاول غودينج بالإقناع تارة وبالعنف غالبًا توزيع الطعام عدلًا بين الجميع ،لكن المُفارقة في تقدير في ذاك المشهد كانت في إنه حتى ومع الإقتسام العادل فالطعام لم يكفي ،ونفذ قبل أن يصل إلى الطوابق الأخيرة رغم أن الكثير من الطوابق كانت قد خلت من ساكنيها فإما أنهم قتلوا بعضهم أو قتل أحدهم الآخر !

إلى ماذا تشير تلك الصورة ،الطعام لا يكفي ،ثمة من سيجوع حتمًا ،هل رمى المؤلف إلى أن القوة العُليا ظالمة،أو أن العشوائية هي السمةُ الغالبة لهذا المكان فلا يَهم إن كفت الموارد أو لم تكفي ،ربما هو يُكمل الصورة العبثية للموقف كله ،فسلوك المكان كله فوضوي ،لا شيء مُفسر وكلُ في النهاية يغني على ليلاه ،يُفتش عن نجاته الشخصية وخلاصه السريع من تلك الحفرة بأقل الخسائر !

في تقديري الشخصي ،هذا العمل الذي قد لا يُلائم كل المُشاهدين ،وإضافة إلى عبقرية التصوير والآداء اللذان ليسا محلا للنقاش هنا ،هو نافذة نُطل منها على هذا العالم لنراه بدقة أكبر ،لنتوقف أمام أمورٍ قد لا نتوقف عندها غالبًا فنحن في زمنٍ صعب ،(والناس بتاكل بعضها)  !