أسامة حمامة
أسامة حمامة

د

عالم الوقاحة

استشرت الوقاحة والبذاءة في مجتمعنا بشكل “همجي”، حتى أصبح كل فعل أخلاقي وإنسان مؤدب مَثار استغراب الناس وتشكيكهم، بل وحتى سخريتهم في كثير من الأحيان. أضحى الشخص المهذب في زمننا محط تحقير واستصغار، يُنظر إلى طيبته على أنها سذاجة وغباء، ومن الذئاب البشرية من يراه فريسة سهلة ولقمة سائغة، فيسارع بذلك حِقار النفوس إلى محاولة استغلال أي فرد تظهر عليه بعض علامات الحياء والرفق أو بوادر اللياقة والنزاهة والعفة.
وإن حدث أنْ باءت بالفشل محاولات الانتهازيين في إخضاع (الإنسان الفاضل)، بضمه إلى قبيلتهم أو إلحاقه بلائحة “غنائمهم” -بعد إدراكهم طبعا أنّ الشخص لبق رزين وليس مغفلاً كما يعتقدون-، استحَال عندهم ذاك العبد الشريف إلى “عدو لدود”، فاتخذوه هزؤا وكالوا له أقبح الشتائم ونسبوا التصنع والاحتيال والرياء إلى سلوكه القويم وصفاته الحميدة، وما نبع ذلك إلا من فرط الحقد والغل، ومن الأسف على عدم استطاعة قضاء وطرهم منه، وربما من ضياع آمالهم في جعله واحداً منهم، أو في أن يغدوا هم مثله يوماً ما.
في سياق متصل، لا أنكر أن الطيبين أنفسهم يتعجبون أحياناً لدى ملاقاة أو مصادفة شخص طيب آخر، وغالباً ما يكون شعورهم البريء بـ “العجب” ممزوجا بالفرح لأن أمنتيهم في إيجاد شخص طيب مثلهم تحققت أخيراً، ولأنهم واعون بكون الطيبة الخالصة عملة نادرة في وقتنا، وما مروا به من تجارب سيئة جعلتهم أكثر تقديراً للطيبين من جهة، وأكبر قدرة، من جهة أخرى، على التمييز بين “الطيبة الصافية الحقيقية” وتلك التي ليست في الواقع إلا خبثاً يرتدي قناع “الطيبة”، يذكرني هذا بلعبة قفاز الملاكمة المضغوط في علبة هدايا أنيقة، تُسعد بها وتخالها عربون محبة جميل، حتى يحين موعد فتحها، لتصدمك لكمة قوية مباشِرة على وجهك.
على صعيدٍ موازٍ، هناك من الناس من يصر على التشكيك الدائم في صدق أدب شخص ما، حتى لو كانت تلك هي طبيعة الشخص الأصلية، مردُّ ذلك اعتيادهم العيش في وسط قذر أخلاقيًا، محاطين بالوضعاء من كل جانب، حتى أصبحت الدناءة والانحطاط والأنانية عند هؤلاء أمرًا “عاديًا”، لدرجة جزمهم قطعا باندثار الأسوياء ذوي الشمائل الحسنة، مع إيمانهم المطلق بفرضية أن كل عمل صالح وصنيع حسن مهما كان جليلًا، ليس إلا فعلاً مُغرِضاً يصدر حصراً بدافع المصلحة الشخصية.

إنهم بذلك يُسقطون ما هم عليه من فحش وضلال على الناس الآخرين، ولا يرون أي إمكانية لوجود عكس ما ألِفوه، المسألة هنا تشبه قصة امرأة تربت في بيئة قمعية منذ الصغر، تعرضت خلال نشأتها لظلم ذكوري من طرف الأب والإخوة، ثم طالها الأذى مجددًا عبر المرور بمواقف وعلاقات سيئة مع الرجال، عاطفياً ومهنياً وفي الشارع، لتتكون لدى تلك السيدة فكرة سوداوية -يصعب اجتتاثها-، مفادها أن “الرجال جميعهم مجرمون بغضاء”، وهي إن كانت قد انطلقت في بناء تصورها -الذي صار قناعة راسخة الآن- من تراكمات تجربة شخصية محضة -لا نلومها عليها أبداً-، فهذا لا يعني بتاتاً صحة ذاك التصور السلبي أو استحالة العثور على بديل ملموس يبدد تشاؤمها ويخفف عنها شيئاً من الحيف الذي عاشته سابقًا.
إن وقوعها في فخ النمطية بسبب تكرار ما مسّها من عنف وجور من النوع الاجتماعي ذاته (الذكور)، ليس مبررًا كافياً لتفضيل التقوقع على النفس واتخاذ سلوك عدائي كإجراء وقائي يحميها من خبايا المستقبل، فالإمعان في الاكتئاب سيضعف حسها النقدي ووازعها الأخلاقي الداخلي، وستسول لها نفسها عاجلاً أو آجلاً، إصلاحَ كيانها ورد الاعتبار بإعادة إنتاج ما عاشته من شناعة قديماً، أي أنها ستتحرك لتحقيق تلك الغاية مدفوعة فقط برغبتها في “الانتقام”، ليس بالضرورة ممن أساء إليها، بل من “الجميع”.

وهي بذاك ستوغل في عملية تسميم شخصيتها وتدمير أي خصال أو قيم نبيلة تبقت لديها، لتتحول إلى شخصية شريرة لا تقل أنانية عن الذين انتهكوا حقوقها واغتصبوا كرامتها في ماضٍ قريب. ولو ركزت، عوض البحث عن الثأر، على ما يعزز التفاؤل في نفسيتها، ويرجع ثقتها المفقودة بالنفس، لتكون أقوى روحياً وأذكى تعاملاً، لكان أفضل لها على المدى البعيد.

قد يولّد الاقتصاص لديها شعوراً لحظياً بالرضا أو حتى “الفخر”، لكن هل هو فعلًا كذلك؟ وهل سيخرجها ذلك من متاهة الرهاب والقلق والتوتر التي ستظل غائصة فيها ما دامت متعلقة بتلك الفكرة السوداوية؟.. فكرةٌ، التشبث بها، قد يفوت عليها فرصة مقابلة من سيحتضن قلبها يوما برحمة وإخلاص ويمسح على جبينها بعطف لتزول كل الذكريات المؤلمة.